وكذلك على الانتخابات التي تلت هذه التفجيرات, وكانت بمثابة عقاب لرئيس الوزراء الأسبق خوسيه ماريا أزنار, ليثبت أن الانحياز الاسباني الكامل باتجاه الولايات المتحدة ليس سوى نقطة واحدة في تاريخ اسبانيا, وإن إسبانيا قررت أن تعود لربط وشائجها مع ما يمكن أن يكون قدرها الأوروبي, ويؤكد على ذلك الانطباع حصيلة ماجرى العام الماضي, خلال ذلك العام كانت الرهانات على أوروبا عديدة.
رتب رئيس الوزراء الاسباني الاشتراكي لويس زابا تيرو مسألة تقاربه مع المحور الفرنسي- الألماني في سلم أولويات سياسته الخارجية, واضطلاع اسبانيا بدور أساسي في عملية البناء الأوروبي, وذلك عبر رفع الحصار الذي فرضه سلفه أزنار على الاتفاق الخاص بالمعاهدة الدستورية في البداية, وبالتالي ليكون الأول الذي يقوم بتنظيم استفتاء للمصادقة على الدستور.
وشهدت الفترةالسابقة تدهورا في العلاقات الاسبانية مع المغرب, أشعله الخلاف على جزيرة سبتة, ولذلك فقد سعى رئيس الوزراء الحالي زاباتيرو انطلاقا من أهمية تحسين العلاقات الثنائية بين البلدين إلى إزالة الخلاف, وقام بزيارة إلى الرباط, وعمل على تعزيز التعاون الأمني بين البلدين في قضية مكافحة الارهاب والتصدي لمشكلة الهجرة السرية, وسبقه إلى الرباط الملك الاسباني خوان كارلوس في أول زيارة دولة له إلى المغرب منذ ربع قرن, وفي مسيرة تفعيلها لنشاطها أحرزت الدبلوماسية الاسبانية تقدما ونجاحا مزدهرا, فقد شاركت في إحياء مجموعة 5+5 التي تتوافق مع هدف إقامة سياسة شمولية مع المغرب, كما وتتيح لها الفرصة لطرح نفسها كمحرك للشراكة الأورو- متوسطية.
وشهدت الدبلوماسية الاسبانية تحولا كاملا باتجاه منطقة أميركا اللاتينية, وجعلت الحكومة من استعادة مصداقية بلادها في هذه المنطقة أولوية لها, نظرا لأن صورتها تشوهت خلال السنوات الماضية بسبب الانحياز المطلق نحو الولايات المتحدة, وكذلك الدور الذي لعبته الشركات الاسبانية في الأرجنتين, وأثمر (الحوار البناء) مع كوبا في تخفيف العقوبات الأوروبية نوعا ما ضد هذا البلد, وبناء على ذلك جاء إطلاق سراح سجناء سياسيين كوبيين في كانون الأول ,2004 وهذا المنهج الدبلوماسي جاء منسجما مع التمسك الاسباني المعلن بالشرعية الدولية والتعددية القطبية.
وأعيد التأكيد على الهوية الأوروبية الاسبانية عبر التقارب بين الخطاب الحكومي مع الأغلبية من الرأي العام الاسباني, والذي مازال يحتفظ في ذاكرته بصورة بلاده قبيل الدخول في السوق الأوروبية المشتركة عام ,1986 ويعلم ما تحمله أوروبا من إيجابيات إلى عملية التحديث الاقتصادي والسياسي لبلاده, وكان المفكر الاسباني اورتيغا أي غاسيه قد كتب قائلا: ( إن إسبانيا هي المشكلة, وأوروبا هي الحل).
وهنا فإن الرد الأوروبي على تحول الدبلوماسية الاسبانية ليس واضحا, والتبدل الأخير في السياسة الأوروبية تجاه إسبانيا كان مثالا, فقد ترك المستشار الألماني شرويدر ونظيره الايطالي بيرلسكوني, رئيس الوزراء الاسباني, إثر الاستفتاء الإيجابي على الدستور الأوروبي الذي جرى في البرتغال, تركوه يواجه مباشرة مع شيراك وضعا حرجا لاسيما وأن الجارة العملاقة لإسبانيا تغذي لدى الاسبان خوفا من امتداد عظمتها ونفوذها, وكذلك لم يعد الثنائي الفرنسي الألماني والذي سعى زاباتيرو في البداية إلى التقرب منه, طموحا يسعى إليه.
وتدرك إسبانيا أن مصلحتها العليا تملي عليها الابتعاد نوعا ما عن الولايات المتحدة, وهذا لا يتعلق بمسألة مبدأ, وإنما بمصلحة وطنية عليا, إذ تعتبر الولايات المتحدة محاورا ذا امتياز على ثلاثة محاور لها الأفضلية:
وفي سياستها على صعيد أميركا اللاتينية يمكن لإسبانيا أن تعتمد على الوضع التساهلي للولايات المتحدة هناك من أجل زيادة تحركها, وقد تبين منذ عهد رئيس الوزراء الأسبق مدى أهمية هذه الركيزة في السياسة الخارجية والأمن المشترك الأوروبي.
ومنذ عام 1990 شكل حلف الناتو بالنسبة لإسبانيا الموجه لتثبيت وضعها على الساحة الدولية, وتقلدت مهاما بارزة فيه أتاح لها تحسين موقعها,وإزالة آثار ومورثات تهميشها الدولي خلال العهد الفرانكفوني, وعزز من موقعها هذا اشتراكها العملياتي في مهام الناتو, ولعبت قوات حفظ السلام دورا مهما في إثبات قدرتها النفوذية.
ومن هنا تولدت القناعة في تقديم مساهمة أكبر وزيادة عدد القوات الاسبانية ضمن قوات (إيساف) العاملة في أفغانستان, وقد وجدت إسبانيا نفسها وداخل الناتو على مفترق طرق, وهي المتقربة جدا من واشنطن داخل الحلف, مفترق طرق متقاطعة ومتكاملة في آن واحد سواء أكان على صعيد الخطاب الرسمي أم على صعيد الواقع.
وعلى صعيد الرأي العام الإسباني فإن شكوكه وتبدله لم تملها فقط قيود الوضع الدولي وطموحات القدرة الاسبانية بل إن مصلحته لم نجدها لدى النخبة في عالم رجال الأعمال, ذلك العالم المستند إلى صناعة التكنولوجيا الأميركية, والمقرب من الولايات المتحدة, وبالتالي التواجد الأميركي في إسبانيا غير صناعتها, ولذلك فقد تميز عام 2003 بتأييد العديد من المجموعات الصناعية الاسبانية للحرب على العراق.
وطبعا تلعب الحسابات الاقتصادية دورا أساسيا هنا في السياسة الخارجية, المتعارضة مع المصلحة الأوروبية.
ولكن يبقى الاتفاق على المحاور الأساسية في السياسة الخارجية الاسبانية بين الحزبين المتعاقبين على السلطة في مدريد الشعبي والاشتراكي مفقودا, رغم موافقة الحزب الشعبي على دستور الاتحاد, وهو الحزب الذي رفض الاقرار بالدستور الأوروبي خلال عهد أزنار.