وتميل تلقائياً إلى تسجيل مستويات جديدة من الاستقواء والاستعلاء , بحيث تتحول الشعوب قاطبة إلى مجرد دمى تتحرك وفق أهواء ورغبات الهيمنة, وتستجيب تلقائياً لمستلزمات إشاعتها في المناخ الدولي القائم أساساً على عوامل خلل واضحة.
والسؤال هل تشكل تلك المقدمة الحقيقية لمقولات سياسية ونظريات إيديولوجية سوقت نفسها منذ عقود على أنها البديل الحقيقي للواقع الدولي, كما أنها المحصلة النهائية لكل ماشهدته البشرية من مخاضات وتجارب وحقول اختبارات?!
من الصعب الجزم بأن الاتجاه السائد في السياسة الدولية ولا سيما الأميركية منها, لم يتأثر بتلك النظريات والمقولات, كما أنه يستحيل الفصل التلقائي بين مايجري وبين جملة الارهاصات التي سبقت هذه الوقائع على قاعدة الادراك المسبق بجدلية العلاقة القائمة, بل وتكاملها والتطلع نحو ارساء قواعد جديدة في العلاقات الدولية تكون الاطار البديل لكل ماسبقه, بل والمناقض له توصيفاً وسمات, كما أنه المختلف عنه شكلاً ومضموناً.
ويمكن هنا أن نقرأ الشواهد الدالة على ذلك من خلال الإسهاب في الحديث أولاً ومن ثم القفز إلى توجيه الاتهامات ثانياً, بحيث أن التهمة لم تعد ملتصقة بفكرة الارهاب أو عدم محاربته, بل هي أيضاً عرقلة المشروع الجديد بكل صيغه وتوصيفاته فحين يوجه الرئيس بوش اتهاماته لسورية, لم يتردد في القول إنها تعيق تحقيق مشروع الشرق الأوسط الكبير, وكأن هذا المشروع, أضحى أحد مقومات الدلالة على الاستقامة السياسية وفق النظرة الأميركية , ويتناسى الرئيس بوش أن الرفض لم يكن رسمياً فقط, بل الإطار الحقيقي للرفض كان على المستوى الشعبي, عندما أقرت الشعوب العربية والاسلامية الحاضنة التاريخية والمستقبلية للمنطقة الممتدة من الأطلسي إلى الباكستان مع الإضافات التي قد تلحق بها, برفضها لذلك المشروع باعتباره أحد النماذج الصارخة على التناقض السياسي والاجتماعي والفكري بين مايطرح وبين التطلعات المشروعة بل والمتطلبات الأساسية للنهوض.
وحين يتجاوز الرئيس بوش الأمر في خطابات التوجيه إلى حد اعتبار روسيا جزءاً من حركة الانتقاد المتدرجة والمتدحرجة تبعاً للسلوك السياسي, فإن توقيت التعبير الاميركي لايخلو من لهجة تصعيد متعمدة, تهدف إلى الضغط السياسي وحتى الابتزاز لروسيا بعد سلسلة من المواقف الروسية اللافتة سواء لجهة استئناف التعاون مع إيران ولاسيما فيما يتعلق ببرنامجها النووي للأغراض السلمية أم لمواقفها من القضايا الأخرى وأضحت روسيا ضمن القائمة الأميركية تعاني القصور ذاته الذي تعانيه شعوب العالم الثالث, بل ثمة من تحدث عن أن اللقاء الأخير الذي تم بين بوش وبوتين في سلوفاكيا كان يحمل علامات المواجهة الضمنية عندما بدت ملامح الضيق واضحة على الرئيس بوتين وهو يسمع المطالبات الأميركية حول الديمقراطية وحقوق الانسان وحرية الاعلام.
وإذا أبدى الرئيس بوتين ذلك الضيق دون أن يعلن المواجهة الصريحة بالرفض بأنه يعود إلى تكتيك سياسي استخدمته روسيا في مستوى هذه المواجهة, بحيث تنقلها من طرف إلى آخر وفق مقتضيات الحاجة الروسية وليس كما تريد الأجندة الأميركية, دون أن تستطيع الإدارة الأميركية انتزاع أي موقف روسي يوحي بالاستجابة الكلية ويتضح ذلك من خلال جملة من المؤشرات أعقبت لقاء القمة, وخصوصاً مايتعلق بالاحتياجات الروسية الملحة التي كانت في جوهرها عملية تأسيس لمرحلة جديدة من التعاطي الروسي الرصين مع الهيجان الأميركي الصريح والواضح, واللافت في الأمر أن يترافق ذلك مع اعتقاد أغلب دوائر القرار الأميركي بأن هذا الأسلوب الروسي يتميز بحنكة سياسية جعلت الكثير من الحسابات الأميركية عرضة لمراجعة ضرورية وفقاً لتطورات الموقف الروسي.
وعلى المستوى ذاته لم تكن الاستجابة الاوروبية للرغبة الأميركية متوافقة مع ما كان تخطط له إدارة الرئيس بوش, إذ إن لغة الإيحاء بأن المساحة المتاحة للتلاقي الأميركي الأوروبي قد اتسعت, كانت لغة سمجة لم ترضِ طموح الأوروبيين, كما أنها لم تفِ باحتياجات الغرور الاميركي, فبدت المسألة في جدالها الدائر حركة التفافية تعقد من المسائل الشائكة أكثر مما تساهم في حلها, وأن المداورة السياسية في المواقف سواء الأوروبية أم الأميركية ,كانت تخفي عوامل الصراع, كما تتستر على الحقائق الناظمة لها ويمكن إدراج ذلك كله في إطار ما يسوق أوروبياً على أنه مهادنة مؤقتة بهدف امتصاص الاندفاع الأميركي المسكون بهاجس الولاية الثانية وفريق العمل المرمم أميركياً ليكون أكثر حماساً للهيمنة وضرورة بلورتها في أقصر وقت متاح.
وفق هذا المنظور تتكثف التقاطعات الكبرى في المشهد الدولي على معطيات تتجاوز فكرة التوصيف القائمة والتي تشير إلى مسلمات أولية تتخذها الإدارة الأميركية نماذج للذريعة التي تريدها حين تحاول أن تعمم نظرياتها في الهيمنة ويتلاقى ذلك مع الحسابات العديدة التي يقدمها تيار المحافظين الجدد في إدارة الرئيس بوش, حيث يبدو هذا التيار عرضة لتباينات تؤكد فرزاً أولياً تم الحديث عنه ومفاده أن التدرج في أطياف المحافظين الجدد يعزز وجودهم حول الرئيس بوش, لأن خياراته ستكون من هذا التيار ولن تخرج عن اطاره ولذلك فإن الأخذ بنصوص بعض النظريات وإهمال بعضها الآخر يندرج في إطار التناوب على صياغة أسلوب المرحلة ومتطلباتها وبهذا تكون الإدارة الأميركية قد وضعت استراتيجية التعاطي مع الملفات وفقاً لتراتبية يمليها هذا التيار , وبالتالي من الصعب الخروج بنظرة واحدة أو خلاصة محددة حول ملامح الولاية الثانية, فعندما كان الصراع بين الخارجية والبنتاغون في الولاية الأولى كان يمكن وضع سيناريوهات محتملة للحصيلة النهائية بجوانبها المختلفة, أما الولاية الثانية فإن السيناريو يكون مبرمجاً على أساس الصراع بين أجنحة البنتاغون ذاته, والخارجية الأميركية.
من هنا يأخذ المشهد الدولي إشكالية الرهان الخاسر على كل الصعد, لأن حتمية المواجهة قائمة بكل الاحتمالات وأن الاستراتيجية القائمة على تعميم القبول بالمنطق الأميركي دون نقاش هي الأسلوب المتبع في صياغة الموقف الأميركي من كل القضايا إذ إن ما قيل عن ميل أميركي لرأب الصدع مع الأوروبيين كان يرتكز في جوهره على أن تقبل أوروبا بما لم تقبل به سابقاً, وأن يكون الاقناع معتمداً على تسليم بالأفكار الأميركية وحتى تلك التي اعتبرت خاطئة يجب تجاوزها والنظر إلى البدائل الأميركية حصراً, دون أن يسمح لغيرهم بطرح بدائل, وهي في كل الحالات ترتكز على فرضية الهيمنة ومسلمة القبول بها.
تلك ربما كانت التشعبات أو التقسيمات الرئيسية لملامح الولاية الثانية لإدارة الرئيس بوش, وقد عززت فيها جولته الأوروبية ونقاط الإخفاق والنجاح التي تحققت وإن كان التركيز الأميركي يستند على ما اعتبروه نجاحاً أميركياً في الرفض الأوروبي والقبول تالياً بما سبق إن أبدوا امتعاضهم منه, وإن كان ذلك قد تم اخراجه بشكل يحفظ لأوروبا بعضاً من ماء الوجه هذا إن بقي لديها ما يكفي من الماء لحفظه?!