فهذه النظرة يمكن أن تكون بوصلة دقيقة نركن لهديها تشير إلى الاتجاه الذي تقبع فيه حركة الفكر العربي حالياً.
ولنتفق بادئ ذي بدء أن الثقافة العربية شأنها شأن الإنسان العربي نفسه، لأنها منتج من أهم منتجاته العقلية، تمر في طريق الحياة بوهاد ونجود، تارة تنطلق في حركة تصاعدية إلى الأمام، وتهوي إلى منحدر سحيق تارة أخرى، وهذا أمر طبيعي في حياة كل ثقافة بصرف النظر عن هويتها، بل إنه أكثر من طبيعي، ولنتفق بعد هذا على أن الثقافة العربية شأنها شأن الإنسان العربي لم تعش حياتها في سياق خط مستقيم، إلا في أمانينا إن لم نقل في تصوراتنا وأحلامنا، بل شهدت حالات انقباض وانبساط، إقدام وإحجام، نهوض ونكوص، وهذا هو حال بحرها اليوم، أمواج متلاطمة لاتعرف القرار، شوق جارف إلى الأعماق ورغبة ملحة في ملازمة الشطآن، نزوع إلى الابتعاد عن الأصل ونداء جارف للالتصاق به .
وفي هذا المنحى فإن الحالة التي تعيشها الثقافة العربية هذه الأيام، هي حلقة محكمة في مسلسل مليء بالمفاجآت لكنها لا ترقى لتصبح نوعاً من التناقضات.
في مثل هذا العاصف اللجي تخرج الثقافة يدها فلا تكاد تراها، فالوضع كما يرى بعض الخائفين عليها القلقين على مصيرها أشبه ببحر لجي ظلمات بعضها فوق بعض .
وتلك هي المرآة بكل ما فيها من صور ملونة وأطياف مصبوغة بالغموض، لكننا مصرون على أن عودة الصفاء إلى هذه المرآة مسألة وقت ليس إلا .
حالة النمو شيء نفرح به ونهلل له، ثم تغطي صورة فيها ما فيها من الاسوداد على المشهد فترانا مصرين على التمسك بحالة الارتقاء، وإذا الهبوط يخاطب الصعود أن جاء الدور لأحل مكانك وهكذا تستمر الدوائر بتلقي الحجارة فيزداد سطح الماء تجعداً.
كل ذلك يحدث ونحن نراه بالعين الفاحصة المتأملة لا نستطيع أن نمر به مرور الكرام، ونظل متشبثين بأمراس الأمل، الأمل الحي الواقعي لا الأمل الواهم المخدوع، فنجهر برأينا ونقول عندما تنهض الثقافة العربية من جديد- وستنهض كما نرجو- عندما ستثبت للعالم بأنه ودرت النبع السحري منذ فجر التاريخ وتعرفت على إكسير الخلود وشربت منه حتى الارتواء لأن كأسه كانت ملأى حتى الجمام، إنه الماء الذي يهب شبابها القدرة على مقارعة المشيب والانتصار عليه .
هي حالة عابرة تلك الحالة التي تمر بها الثقافة العربية، ويظن معها أولئك الذين لا يعرفون حقيقتها أنها حالة مزمنة لا يرجى منها خروج ولا يؤمل معها شفاء.
الثقافة العربية مرت بلحظات مؤلمة في تاريخها، وتعرضت لمحاولات طمس المعالم وتذويب الهوية. وربما المحو الكامل فردت أولئك الذين اعتدوا على كبريائها على أعقابهم، وظلت شامخة شموخ السنديان العتيق في أرضنا الطيبة .. عليك نعول يا ثقافتنا الطاهرة لأنك الشباب الذي يقهر المشيب، ولأنك النهار الذي يزيح الليل، فاستردي همتك وعودي كما كنت فارسة المكان والزمان .