وهناك من لايعنيه أبداً شأن كرة القدم ولا يتابع مباريات كأس العالم، لكن ربما للترفيه عن النفس يمكن الاطلاع على كتاب بوريول الذي يعيد إلى الذاكرة - ومع الثناء عليها- ستة مشاهد شهيرة جداً لضربات سيئة قام بها لاعبون كبار أهمها ركلة الرأس التي وجهها اللاعب زيدان إلى ماتيرازي ولمسة اليد الشهيرة لـ تيري هنري في تشرين الثاني الماضي ولمسة يد مارادونا عام 1986 وحينها أوصل فريقه إلى حيازة كأس العالم، وركلة القدم للاعب كانتونا في بطن أحد المشجعين لـ كريستال بالاس، وصرخة الفرح لميشيل بلاتيني في ملعب هيتنرل، وضربة الكتف لـ شومورير إلى باتيستون.
الكتاب ليس بحثاً ولا رواية إنما عبارة عن مجموعة من النصوص فيها إعادة تمثيل لبعض المشاهد الأسطورية في تاريخ الكرة يعرضها الكتاب بصورة رائعة في لحظات بطيئة وأخرى سريعة، بأصوات خافتة أو بهواجس اللاعبين، ويعلق على المباريات بحماس أحياناً وبخبث أحياناً أخرى. ويبدو أنه عاين المشاهد ألف مرة ليتصور بما كان يفكر اللاعبون أثناء تصديهم للضربات أو خرقهم لقواعد اللعب، فيتخيل أن زيدان يقول لـ ماتيرازي لحظة نطحه برأسه: «ربما سيفوز فريقك بكأس العالم لكن ما سيبقى في ذاكرة الناس صورة جسدك الضخم يهوي إلى الخلف ليقع على الأرض بشكل مضحك وستبقى في صدرك ذكرى هذه الضربة المفاجئة كوقع الصاعقة». ثم يستدعي الكاتب كباراً: مثل ميشو وسارتر ومال برانش وكامو وفيليب روث وباسكال وأرسطو ويان كاراسكي، ويقول لهم أنتم مدعوون كل بدوره حيث هو من علٍ ليقوم بالتحليل وليس فقط حسب وجهات نظر واعظي الأخلاق من عامة البشر.
هؤلاء اللاعبون الذين تجاوزوا الحدود نقول عنهم في الأدب: لقد أضفوا السمو والعظمة إلى المباراة كما يذهب الكاتب إلى تحليل ما قاله اللاعبون بعد ضرباتهم تلك كقول بلاتيني: «في هذا اليوم أصبحت رجلاً» وقول زيدان: «أنا رجل قبل كل شيء»، وكانتونا: «أنا بشر قبل أن أكون لاعباً»، وبدوره سومورا قال: «لقد تحطم شيء ما في داخلي».
أما ماراودنا فبرأي بوريول وبقلمه السريع المحكم كضربات اللاعبين المهرة فقد تحول إلى أحد آلهة الأولمب كما ماكيزو الذي ميزه ديلوس عن بورغ كونه ابتدع لعبة التنس الديمقراطية ليصبح المضرب للجميع، وبالنسبة لـ تيري هنري فهو «أويديري» إحدى شخصيات سارتر المشهورة الذي تلطخت يداه ليكون إنساناً مؤثراً وأخيراً (أخيل) الزمن الحديث وهو زيدان صاحب نطحة الرأس أداها بمنتهى الكمال واجتمع فيها الحماس والدم البارد، حركة انتصرت على الكلمات والشتائم التي وجهها له اللاعب الإيطالي، واستقى منها زيدان عبرة أخلاقية كبرى بأنه عندما نرد على الشتيمة يعني ذلك اعتبار من اعتدى علينا هو شخص مسؤول عن كلام وقعه أكبر بكثير من الضرب، وفي نهاية كتابه يفاجئ بوريول القارئ الذي ينتظر كأس العالم بانفعال وينجح بإقناعه أن مباريات كرة القدم ما هي إلا حرب طروادة جديدة يتحول فيها الرجال إلى آلهة أو إلى محاربين خلال تسعين دقيقة من الزمن.
ومن جامعة ليون يقدم الكاتب وأستاذ الفلسفة أيضاً جون فرانسوا برادو كتاباً يمتدح فيه المشجعين معتبراً أن مدرجات الملاعب ما هي إلا مكان لاختبار القدرة على الحب وفي كتابه يعيد برادو الاعتبار لجمهور المشجعين الذي كان واحداً منهم خلال ثلاثين عاماً وقد كتب خاطرته هذه: لا نستطيع أن نتحدث عن كرة القدم إلا من الداخل، ويبدو أن كتابه ممتع جذاب لما فيه من جرأة وحكمة ومواقف مضحكة يقول:
علينا ألا نخلط بين المشجع والمشاهد العادي الذي لا يملك ثقافة ما يشاهد، فجمهور كرة القدم هو جمهور واسع المعرفة في هذا المجال ولديه ثقافة شفهية أصولها عريقة، يأتي إلى الملعب ليمارس طقساً روحياً طقس حب وأخلاق في آن معاً ويتحول إلى جوقة تشبه في أدوارها جوقة المسرح القديم، كما يركز الكاتب على وفاء المشجع الذي لا يخون فريقه أبداً، وبرأيه فإنه ما من شبه بين كرة القدم وبين قدّاس في كنيسة، فالمباريات لاتعكس أبداً العلاقات الاجتماعية بل إنها ورثية ثقافات ذات لغز قديم.