وحصدت نتيجتها واشنطن قاعدة ( ماناس) العسكرية على أراضي هذه الجمهورية، وقعت البلاد بين فكي التبعية الأمريكية، وتردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية ونهب الحكام للثروات، وخرق حقوق الإنسان، وتضييق باكييف على الشركات ووسائل الإعلام الروسية، وتنصله من التزاماته تجاه روسيا وبيعه الوقود المستورد منها بأسعار تفضيلية إلى القوات الأمريكية في القاعدة المذكورة .
هذه الأوضاع دفعت الحكومة الروسية إلى المعاملة بالمثل حيث منعت قرغيزيا من الحصول على الطاقة ، واستعادت موسكو دورها الطبيعي المؤثر الذي كان سائداً في الفضاء السوفييتي السابق، وأصبحت البلاد مرة أخرى هدفاً للتنافس الأمريكي الروسي، ولم تستطع المحافظة على علاقات متوازنة أو تحقيق أي فوائد سياسية واقتصادية رغم تغير نظام الحكم فيها لمرتين منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، واختلت العلاقات لصالح الولايات المتحدة.
لهذه الأسباب نظر الروس بعين الاستياء، واضطروا لتقديم مبلغ ملياري دولار لقاء وعد باكييف بالعمل على تفكيك قاعدة (ماناس)، لكن الأخير لجأ إلى المساومة ورفع قيمة تأجيرها من 17 مليون دولار سنوياً إلى خمسين مليون دولار، وهو ما أدى أيضاً لاختلال العلاقة مع واشنطن التي بدأت تفكر بإحياء الثورات الملونة التي دعمتها في بعض الجمهوريات السوفييتية السابقة ومنها قرغيزيا، وأنذرت المشكلة بانتكاسة مماثلة لما حدث قبل خمس سنوات، وعمّت الفوضى في البلاد بسبب تأكيد الحكومة المؤقتة الحالية على متانة العلاقة مع روسيا، ووقع من وقع من ضحايا وحلت الأزمة، ثم اشتعلت النار من جديد وها هو العالم ينتظر نهاية مشاهد المأساة.
إذاً أثر العامل الداخلي يظل جانبياً بالقياس إلى العامل الخارجي المحكوم بالاندفاع الأمريكي إلى آسيا الوسطى من أجل الحصول على المزيد من المكاسب لإرواء ظمئها في الحروب وتأجيج الصراع في الدول التي تبحث فقط عن الهدوء والاستقرار وتكوين العلاقات كي تستطيع الوقوف على رجليها في ظل ازدحام المصالح وتدافع الدول للحصول على المكاسب فيها أو استخدامها كجسر للعبور من أجل تحقيق أهدافها التوسعية، حيث تمكنت أمريكا حتى الآن، مع حلفائها الغربيين، من احتواء بلدان أوروبا الشرقية والوسطى بما فيها البلقان والبلطيق ، وتتطلع إلى المزيد ، دون الاكتراث بعدد الضحايا أو المشردين واللاجئين ومادام الأمر يحقق لها المكاسب التي تبحث عنها هنا وهناك .
فقرغيزيا رغم أنها جمهورية صغيرة وفقيرة الموارد، أصبحت هدفاً أمريكياً مهماً في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي السابق وضعف روسيا في عهد الرئيس بوريس يلتسين، أما الآن فيبدو أن الإدارة الأمريكية لا تريد معرفة ما يجري في هذا البلد، ولاسيما أن روسيا اعترفت بنظام روزا أوتونباييفا بعد الإطاحة بباكييف وأرسلت جنوداً إلى قواعدها العسكرية في قرغيزيا في خطوة ذات دلالة على حرصها على مساعدة الحكومة المؤقتة على نشر الأمن في البلاد، وسارعت للمطالبة بإقفال القاعدة الأمريكية ، الأمر الذي لن تجد الحكومة المؤقتة مناصاً من الإقدام عليه في ظل حاجتها الملحة إلى الدعم الروسي، لأن باكييف الذي يمد بصره نحو الأمريكيين الذين لا يملكون، في ظل هزائمهم المركبة في أكثر من مكان ومجال، غير خذلانه شأن ما فعلوه مع ميخائيل ساكاشفيلي في جورجيا ومع غيره ، ولم تحرك ساكناً لحمايته، وأعلنت دعمها للحكومة الجديدة والتعامل معها، حتى يتسنى لها تأسيس حلف آخر لها ودعمه، كعامل احتياط إذا لم تنفع مساندتها للحكومة الحالية، والتفكير فيما بعد بثورة أخرى وانقلاب آخر، فذلك يقع ضمن مشروعاتها للسيطرة على العالم كقوة عظمى ووحيدة في ظل الصمت الدولي عن جبروتها وطغيانها.