تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


«مالي» ... الشرارة الأولى لحروب تفكيكية في عموم افريقيا؟

شؤون سياسية
السبت 2-3-2013
د.صياح عزام

قامت الدول الإمبريالية منذ عام /1991/ وحتى الآن بعدة حروب يمكن أنْ يُطلق عليها مصطلح «حروب تفكيكية» سواء كانت في العراق أو أفغانستان أو ليبيا، ثم الحرب الجارية في سورية بالوكالة أو الحرب في مالي.

إنَّ العدوان على /مالي/ يستهدف الجزائر بالدرجة الأولى، حيث ستكون الدولة الأولى المتضررة منه بثرواتها، وسيادتها، وأمنها القومي.‏

حين يُعلن وزير الخارجية الفرنسي «لوران فابيوس» عن قبول الحكومة الجزائرية السماح للطائرات الحربية الفرنسية بعبور المجال الجوي الجزائري بكل حرية لتشنّ غاراتها على مواقع الجماعات الإسلامية المسلحة في شمال مالي، يكون قد وضع الجزائر في ورطة حقيقية، وزجَّها في مستنقع لن تتوقّف ارتجاجاتُه عند الشمال المالي، وأدخلها في متاهات هي في غنىً عنها.‏

إنّ القبول بالتدخل العسكري الفرنسي في /مالي/ والسماح بعودة المستعمر الفرنسي إلى ما يعتبره حدائقه الخلفية في منافسة محمومة مع الأمريكيين لوضع اليد على كُل مُقدّرات أفريقيا ضمنياً كان أو علنياً، قسراً أو رغبةًـ لن يقضي على هذه الحركات ولن يُحجِّم دورها.‏

على العكس تماماً فإن تشظّي هذه المنظمات المسلحة وتفرّقها في مسارح لها فيها امتدادٌ وعمقٌ وروافدُ، وفي واقع جيو استراتيجيّ وجيوسياسيّ مُتفجّر، وعلى حدود أقطار تعيش حالة من اللاتوازن أو على حافة التحوّل إلى «دول فاشلة» في ظل مناخ الفوضى الأمنية والعسكرية، كل ذلك سيضاعف من حجم الخطر ويوسّع دائرته. والأدهى والأخطر من ذلك كله، أنّه قد يؤجّجه داخل الجزائر نفسها، ولاسيما أنَّ جذوره وفتائل ألغامه الكامنة تتوالد كالفطر السّام، فكيف إذا قُدمت الذرائع والمبررات؟‏

إنّ سياسة المشي على الحبال التي كانت في مرحلة ما مُغريةً، لم تعُد آمنةً، فمن الواضح أنّ العدوان الفرنسي على /مالي/ لا يستهدف «استئصال الجماعات الجهادية كما هو مُعلن»، بل الهدف منه تسلّل فرنسا من جديد نحو مجالات حيوية، ذلك أنّ فرنسا في ظل حكم /هولاند/ لا تختلف كثيراً عن فرنسا /ساركوزي/، فالسياسات والاستراتيجيات الكبرى تحددها المصالح العليا الحيوية للدولة، وإذا كان الرئيس الفرنسي السابق /ساركوزي/ يُصرّح دون مواربة قائلاً: «ما حدث في ليبيا جرى وفق قرار للحكومة الفرنسية بالذهاب إلى هناك والتدخّل في نزاع داخلي وتقديمه للمجتمع في إطار ثورة»، فإنّ /فرانسوا هولاند/ يرسل قواته المسلحة إلى مالي /لوضع اليد على مقدرات /مالي/ وثرواتها خاصة مناجم اليورانيوم المالية - النيجرية. أما الحديث عن موضوعات ومسائل أخرى مثل: إيقاف هجمات المجموعات المسلحة الإرهابية باتجاه الجنوب، أو عن تفادي انهيار /مالي/ أو عن المسار السياسي ومسار التنمية، كما يحاول وزير الخارجية الفرنسي «فابيوس الإيحاء بذلك-، فهو من باب المغالطات والضحك على الذقون، خاصة ذقون من يتراقصون كما تراقص أمثالُهم في بنغازي وهم يرفعون أعلام الغزاة، ليعبّروا عن شكرهم لفرنسا على عمليات «هرّها الوحشيّ».‏

إنّ من تخونه ذاكرته عليه العودة بها قليلاً، قليلاً إلى أفغانستان والعراق، أو إلى أي مكان حَلَّت به قوات المستعمرين، ليستنتج دون عناء أنه حيثما حلت تلك القوات حَلَّ البلاء. من جهة أخرى، واهمٌ أيضاً كلُّ مَنْ يعتقد أنّ العملية الفرنسية في /مالي/، «عملية الهرّ الوحشي» ستكون مجرّد نزهة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، هذا وزير الدفاع الفرنسي «جون آيفلدوريان» نفسه يُقرّ بأنّ «الوضع صعب» مُناقضاً بذلك تصريحاتٍ سابقة مُنتشيةً بخمرة ذاكرة استعمارية. كذلك يُعزّز هذا التصوّر نفسه حول صعوبة هذا التدخل الجنرال «كارتر هام» قائد القيادة المركزية الإفريقية بقوله: «إنّ عملية مواجهة الجهاديين في /مالي/ مُعقّدة، وتحتاج إلى أشهر من التخطيط نظراً لارتباط الأزمة بأكثر من طرفٍ في المنطقة، ولأنّ الحكومة في مالي أصبحت ضعيفة بعد الانقلاب».‏

إنّ هؤلاء من أمثال الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وغيرها من الدول التي تُوهم الدول والشعوب بأنّها من خلال تدخلاتها هنا وهناك، أنها تحارب الإرهاب، وأنها تعمل على اجتثاث حركات تهدّد الأمن والسلم، هي نفسها التي زرعتْ بذور الإرهاب ودرّبته وغذّته وسلّحته. الإستراتيجيون وصناع القرارات في الولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص، هم من مهَّدوا وأسّسوا لسيطرة هذه المجموعات الإرهابية مثل تنظيم القاعدة وغيره المتمركزة في أكثر من مكان في العالم ومنها «مالي»، على قوسٍ يخترق أهم المصالح الإستراتيجية الفرنسية والغربية عموماً في منطقة تتجاوز مساحة القارة الأوروبية نفسها، بدءاً من مالي إلى موريتانيا، إلى النيجر، حيث تُختزن أضخم مناجم اليورانيوم هناك حصلت شركة «أريفا» الفرنسية على امتيازات استغلالها منذ عقود، وهي التي تُزوّد ثلث المفاعلات المنتجة للطاقة في فرنسا بالوقود النووي!!‏

هذا ما يُفسر الانزلاق فوق /رمال مالي/ الحارقة، أو تكبُّد مغامرة الغرق في حجم «قوس الأزمات المجهول» كما تصفه صحيفة «الأندبندنت» البريطانية في افتتاحيتها تحت عنوان (قوس مُمتد من باكستان فسورية)، فما أفرزه ما يسمى /ربيعاً/ بين النفخ في أوار نار الفتنة الطائفية والمذهبية حيناً، والتذمُّر من تنامي الإسلام السياسي حيناً آخر، كل هذا يشكل قوس أزمات تتوالد، ويقود العالم صوب نفقٍ مظلمٍ ومجهول النهاية.‏

أمّا عن الإرهاب، فقد استخدم ولا يزال فزاعةً يوظّفونها متى شاؤوا وفي المكان الذي يريدون ويجيّشون الجيوش لمحاربته متى قرّروا. والسؤال، أيُّ إرهابٍ هذا الذي يصبح محموداً حين يخوض حروبهم بالوكالة فيُعبِّد الطريق لدباباتهم وأساطيلهم؟ أليس هذا الإرهاب الذي يدعمونه هم ويباركونه هو الذي يكاد أنْ يحوِّل سورية اليوم إلى «ركام» وإلى «دولة فاشلة»؟ أليسوا هم من دعوه ووفّروا له سبل التناسل كالفطر السام يبتزّون به من يشاؤون؟‏

أمّا «كذبة الاستقرار الإقليمي»، فماذا عنها؟ أليست الولايات المتحدة وحلف الناتو من أغرقوا ليبيا بالأسلحة؟ بل وتركوا عَمْداً مخازن السلاح والعتاد للنهب والسرقة دون أي حراسة حتى وصل بعضها إلى /تونس والجزائر ومصر وغزة ونيجيريا وسورية والأردن/ أيضاً! ألم ترصد الإدارة الأمريكية ميزانية /40/ مليون دولار لشراء أو استرجاع صواريخ «ستينغر» الضائعة وعددها «عشرون ألفاً» ولا تزال تُشكّل لها وللبنتاغون كابوساً أمنياً ضاغطاً؟ لماذا تغاضوا عن /250/ سيارة مشحونة بالأسلحة خرجت من ليبيا متوجّهةً إلى شمال /مالي/ رغم ما يملكون من أقمار صناعية، ووكالات استخبارات، وأسراباً من الطائرات دون طيار تتنصّت وتمسح وتراقب كل صغيرةٍ وكبيرة حتى أنّها قادرة على حَصْر الأنفاس؟!‏

صحيح أنّ «مالي» قد تشكل ملاذاً للقاعدة لفترة وجيزة، بسبب تضاريسها المختلفة عن تلك الجبلية الوعرة في أفغانستان، كما يتوقع /مارك شرودر/ محلل شؤون إفريقيا في مؤسسة /ستراتسفور/ للتوقّعات الإستراتيجية والأمنية، إلا أنّ التداعيات الأمنية للتدخل العسكري الخارجي ستؤجّج التوتّرات المحلية، وتترك ارتدادات دموية تمتدُّ إلى ما وراء الحدود، مما قد يزيد من انتشار العمليات الإرهابية إلى دول أخرى. لعل هذا ما دفع بمدير المجلس الأطلسي في واشنطن المختص بأفريقيا السيد /بيتر فام/ إلى اعتبار ما يجري في مالي «شبيهاً بما كان يحدثُ في /أفغانستان/ قبل هجمات /11/ أيلول» في ظل تدفق المسلحين إلى دول إسلامية مجاورة إلى /مالي/. كذلك أوصى /روبرت فيسك/ بعدم المراهنة على نهاية سارّة، حين يعتبر أنّ غطرسة /هولاند/ لم تفكر بالعواقب في /مالي/ التي ستبتلع الفرنسيين!‏

إنّ ما حدث في الجزائر من احتجاز للرهائن في /عين أمناس/ انتقاماً من الجزائر التي فتحت أجواءها أمام الطيران الفرنسي، ليس إلا بعضاً من المُتوقَّع، وليس إلا الشرارة الأولى لنارٍ ستسري ليس في هشيم الجزائر فحسب، بل في كامل منطقة تقف على شفير الهاوية!‏

الخلاصة أنّ شمال أفريقيا ومنطقة الساحل باتا مستهدفيْن بالحروب التفكيكيّة، والجزائر المحاصرة بفوضى غير خلاقة، تُعزّز من خلال تعاونها مع فرنسا ضد /مالي/ موقعها كهدفٍ ضمن ما تبقَّى من «إستراتيجية إسرائيل للثمانينيّات» لتفتيت الأمة العربية. لقد تم تدمير الجيش العراقي، وحُيِّد الجيش المصري، ويُستنزف اليوم الجيش السوري. والآن الجيش الجزائري هو بعين العاصفة.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية