ارتكاب واشنطن جريمة الاغتيال بدم بارد بحق قائد في الجيش الإيراني ورجل وصف بأنه الشخصية الثانية في طهران هو بلا شك جريمة حرب وعدوان عسكري مباشر ضد ايران.
الرد الايراني دون أدنى شك بدأ صباح أول أمس، لاسيما بعد موجة غضب واستنكار شعبي عارم على جريمة الاغتيال، أعطت الشرعية لأي رد تقدم عليه القيادة الإيرانية.
لكن إيران كرست في ردها كثيرا من الانتباه إلى أن واشنطن لا توافق على أن ما أقدمت عليه لا يعد جريمة في نظرها، وحسب الترجيحات فإن المسؤولين الإيرانيين سيناقشون جريمة اغتيال سليماني مع موسكو وبكين وعلى الأغلب مع أوروبا، ويبدو أن المسؤولين الأميركيين ووسائل إعلامهم كانوا يرغبون بتدابير انتقامية سريعة للوصول إلى مبتغاهم، لكن لدى الإيرانيين خيارات واسعة.
إنها حدث سياسي من شأنه أن يقود الولايات المتحدة إلى خوض حرب ضد ايران، وحرب كهذه تنذر بإشعال المنطقة بكاملها، وربما في العالم كله مع نتائجها غير المحسوبة.
هذه الجريمة تبررها حالة اليأس والإحباط التي تعانيها الولايات المتحدة حيال وضعها في الشرق الأوسط، كذلك الأزمة الداخلية المتنامية داخل إدارة ترامب وهي مدهشة بدرجة رعونتها وتهورها، ولجوء الولايات المتحدة إلى ارتكاب عمل شنيع يبرهن في الواقع على أنها لم تصل إلى أي من أهدافها الاستراتيجية التي قادتها إلى اجتياح العراق ما بين عام 1991 وعام 2003 .
إن اغتيال القائد سليماني كان حصيلة مرحلة طويلة من إجرام السياسة الخارجية الأميركية، فعمليات «الاغتيالات المستهدفة» تعبير دخل قاموس السياسة الامبريالية العالمية من خلال»اسرائيل» واستخدمتها الامبريالية الأميركية ضد إرهابيين مزعومين في بلدان تمتد من جنوب آسيا مروراً بالشرق الأوسط وانتهاء بأفريقيا خلال العقدين الماضيين تقريباً، وعلى الرغم من ذلك لم يسبق لرئيس أميركي أن أمر وطلب علانية لمسؤول رفيع يقوم بزيارة شرعية وصريحة لبلد ثالث.
اتهم ترامب القائد الإيراني ب»ارتكاب أعمال إرهابية لزعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط منذ 20 عاماً «، وصرح أن «ما أقدمت عليه الولايات المتحدة كان يجب أن تقوم به منذ زمن بعيد، لإنقاذ الكثير من الأرواح».
لكن من يعتقد الرئيس الأميركي أنه يخدع بخطابه المفضوح هذا؟ ففي غضون 20 عاماً مضت رأينا كيف دخلت الامبريالية الأميركية الشرق الأوسط بسلسلة من عمليات التدخل العسكري، وكانت البداية بالاجتياح الأميركي للعراق عام 2003 مستندة على أكاذيب لها علاقة ب»أسلحة الدمار الشامل» والتي أودت بحياة أكثر من مليون مواطن عراقي، وفتكت بواحدة من المجتمعات العربية الأكثر تقدماً، وحرب الثماني عشر عاماً التي خاضتها في أفغانستان، وحروب تغيير الأنظمة واسقاط الدول التي أطلقتها في سورية وليبيا الامبريالية الأميركية أدت إلى اندلاع أزمة إقليمية راح ضحيتها الملايين من الناس وأجبرت عشرات الملايين على النزوح ومغادرة ديارهم.
سليماني قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني لم يكن أسامة بن لادن ولا أبا بكر البغدادي بل على النقيض من ذلك لعب دوراً جوهرياً في هزيمة «القاعدة» والدولة الإسلامية «داعش».
لقد احتشد ملايين من الأشخاص في شوارع طهران والمدن الإيرانية الأخرى للبكاء والاحتجاج على جريمة اغتيال سليماني الذي اعتبر رمزاً وطنياً إيرانياً ورمزاً لمقاومة هجمات الامبريالية الأميركية على البلاد منذ عقود خلت، وفي العراق اعتبر هجوم المسيرة الأميركية انتهاكاً لسيادة البلاد والقانون الدولي، فالهجوم لم يسقط به القائد سليماني فحسب، بل أبو مهدي المهندس القائد الثاني للحشد الشعبي العراقي وتحالف قوى المقاومة التي يبلغ تعدادها أكثر من 100000 مقاتل وهي تعتبر جزءاً لا يتجزأ من القوات المسلحة العراقية.
إن وصف أي شخصية بأنها «إرهابية» تهمة توجه إلى كل مسؤول في دولة من الدول التي تعوق مصالح واشنطن ومصارفها وشركاتها، ويمكن أن توصف بذلك، وأن يكون عرضة للاغتيال، ويظهر الهجوم الذي نفذ قرب مطار بغداد أنه غير قواعد الاشتباك، وأسقط كل»الخطوط الحمر»، وفي المستقبل يمكن أن يكون الهدف قائداً أو حتى رئيساً في روسيا وفي الصين أو في الحقيقة يمكن أن يحصل في أي عاصمة من حلفاء واشنطن السابقين.
بعد هذا الاغتيال الواضح والصريح والذي طالب به الرئيس ترامب ينكره هل ثمة رئيس دولة أو شخصية عسكرية بارزة في العالم والذي يمكن أن يلتقي بمسؤولين أميركيين دون أن يمر بخاطره أن الأمور إذا لم تمض بسلام معهم يمكن أن يصبح هو أيضاً عرضة للاغتيال؟
إن اغتيال القائد سليماني في بغداد قارنته إحدى الصحف الألمانية باغتيال الأرشيدوق النمساوي عام 1914 .وكما في الحالة السابقة صرحت الصحيفة بالقول: «حبس العالم أنفاسه وترقب بقلق ما الذي سيحدث».
هذا العمل الإجرامي ينطوي على تهديد بحرب عالمية وبقمع استبدادي داخل حدود الولايات المتحدة، فليس من سبب يدعو للاعتقاد أن حكومة تعتمد الاغتيال كأداة في السياسة الخارجية يمكن أن تحجم عن استخدام الأساليب عينها ضد أعدائها في الداخل، واغتيال القائد سليماني هو دليل عن أزمة مستحكمة وإحباط يعيشه النظام الرأسمالي العالمي الذي يهدد بإلقاء البشرية جمعاء في الهاوية.
موندياليزاسيون