هو، وبأدق وأصغر تفاصيله، بحيث يتماهى العمل الفني «رسماً أم نحتاً» بالواقع إلى حد التطابق، ما يجعل الأمر يختلط على المشاهد في تحديد ماهية ما يراه، فيما إذا كان قد نُفذ من قبل الفنان - الإنسان بالريشة والألوان، أو بالمطارق والأزاميل، أو من قبل الكاميرا، لشدة تماهي هذا العمل مع الواقع.
اتجاهات قديمة - جديدة
أخذت الاتجاهات الواقعيّة التشخيصيّة مسميات ومصطلحات عدة منها: الواقعيّة الحرفيّة، والواقعيّة التسجيليّة، والواقعيّة السحريّة، وما فوق الواقعيّة، ومنها مدرسة «البوب آرت». كما يمكن إدراج بعض الاتجاهات الكلاسيكيّة الأكاديميّة التي أفرزتها الفنون التشكيليّة العالميّة خلال المرحلة اليونانيّة والرومانيّة وعصر النهضة الإيطاليّة، ضمن هذا السياق، لا سيما أعمال عباقرة هذا العصر: ليوناردو دافنشي، وميكل أنجلو، ورافائيل ومن أعقبهم من المعلمين الكبار. فقد وصلت بعض نتاجاتهم في الرسم والتصوير والنحت إلى حد مضاهاة الواقع ومقاربته وتمثله بأدق تفاصيله، من ذلك تمثال مايكل أنجلو الشهير «موسى» الذي لشدة مقاربته للواقع، طلب منه أنجلو التكلم، ولما لم يفعل قام بضربه بالمطرقة التي كانت في يده!
حكاية أنجلو وتمثاله
لكن هناك من يسوق أكثر من تفسير لهذه الحادثة الشهيرة في تاريخ الفن العالمي. ففي حين أكد البعض، أن شعور أنجلو بأنه حقق منتهى المثالية الواقعيّة في تمثاله «موسى» وقمة الكمال والتماثل مع الهيئة الإنسانيّة: نسبةً وتشريحاً وتفاصيل، إذ لم يترك أنجلو وريداً ولا شرياناً ولا شعيرات صغيرة في جسد موسى إلا وأبرزها، وأكد عليها، فلماذا بعد هذا لا يتكلم؟! في المقابل، عزا البعض الآخر من الباحثين والدارسين والمؤرخين، هذه الحادثة، إلى الشعور بالفشل الذي انتاب أنجلو «بعد أمضى زمنًاً طويلاً، وصرف جهوداً جبارة ومضنية، في إنجازه لهذا العمل». فقد اكتشف أن ما أراد الوصول إليه ليس هذا الذي أمامه، وبالتالي فهو لم يصل إلى الفن الحقيقي الذي أراده، وطمح إليه، في المنجز الناهض أمامه. ونتيجة لذلك، عبر من خلال «الضربة» عن «الفشل والخيبة» وليس عن «النجاح والفوز».
متاحف الشمع
بعد مرحلة التجاذبات والمحاولات العديدة، من قبل الفنانين التشكيليين، لمقاربة الواقع في أعمالهم الفنيّة المسطحة والمجسمة، ظهر ما يُعرف اليوم بـ «متاحف الشمع» المنتشرة بكثرة في غالبية دول العالم، وهي متاحف مكرسة للتوثيق والتأريخ لشخصيات سياسيّة واجتماعيّة وعلميّة وثقافيّة بارزة ومشهورة، من خلال صنع تماثيل شمعيّة لهم، وإلباسها ثياباً مشابهة ومتطابقة مع ما كانوا يرتدونه في الواقع، إضافة إلى الملحقات «الإكسسوارات» التي ارتبطت بعدد منهم كالغليون، والقبعة، والمحفظة، والعصا.. وغيرها، بغية تكريس واقعيتها في تمثيل صاحبها والتعبير عنه بدقة متناهية.
فقد حملت تماثيل الشمع من الدقة والتطابق المدهش مع من تمثلهم من شخصيات عالميّة معروفة ومشهورة، بحيث لو وقف صاحب التمثال إلى جانب تمثاله، لما تمكن المشاهد من التفريق بينهما. ولتأكيد هذه الواقعيّة، غالباً ما تُربط هذه التماثيل بأصوات أصحابها، عبر أجهزة التسجيل الصغيرة المزروعة فيها أو في القاعة الموجودة فيها.
رون ميوك
«رون ميوك» نحات أسترالي المولد، بريطاني الجنسيّة، ولد عام 1955. له تجربة فنيّة متفردة، تتقاطع إلى حد كبير مع الواقع، ومع تماثيل الشمع، لشدة تماثلها مع الهيئة الإنسانيّة وتشخيصها لها، عارية ولابسة، لكن بحجوم متباينة، تصغر أو تكبر، عن النسبة الواقعيّة، وهو ما يخلق حالة من الإدهاش لمشاهدها، يصفها البعض بـ «الصدمة» التي لا تأتي فقط، من مفارقات حجومها، وإنما أيضاً، من الحالة التعبيريّة المؤثرة الراشحة منها، وهي حالة تؤديها حركة التمثال، ووضعيته، وحجمه، وصمته في آنٍ معاً! ذاع صيت ميوك مع إنجازه لتمثاله المعنون «رجل ميت» العام 1998 الذي يمثل رجلاً عارياً تماماً، مكسواً نصفه الأعلى بحراشف رقيقة، أخذ هذا العمل طريقه إلى العرض العام 1997 في الأكاديميّة البريطانيّة للفنون بلندن. قبلها عمل ميوك في مجال الإعلان التجاري، وفن صناعة نماذج الشخصيات في عالم الرسوم المتحركة، وقد تأثير كثيراً بأمه بالتبني الفنانة البريطانيّة الشهيرة «باولا ريفو» التي يعود إليها الفضل في ابتكار شخصية «بينيكيو» المعروفة والمتمثلة بالفتى ذي الأنف الخشبي، وقد كان لهذه الفنانة باع طويل في حقل الرسوم المتحركة التي مزجت فيها بين الواقع والخيال، وهذه الخصيصة تحديداً، استفاد منها ميوك، وبنى عليها أعماله التي شقت طريقها إلى الشهرة، مع تمثاله «رجل ميت» الذي حظي باهتمام كبير، من القيّم على المعرض الذي ضمه لأول مرة. وهكذا عكف هذا النحات المتميز والمتفرد بأسلوبه، على إنجاز سلسلة من الأعمال الفنيّة المماثلة التي ينجزها من مواد صنعيّة عديدة بينها: السيليكون، والفيبرغلاس، والإكريليك، بوساطة قوالب يصنعها لهذه الغاية من الطين.
تنقلت أعمال رون ميوك في العديد من دول العالم، فقد شاهدتها إنكلترا، وأستراليا، والولايات المتحدة الأمريكيّة.. وغيرها.
واقعيَّة محيّرة
يقول ميوك، بأنه لا يتقصد التأكيد على الحضور الواقعي لأعماله الفنيّة، بحيث تطغى واقعيتها على المتلقي، وتسيطر على أحاسيسه، وصولاًً إلى اكتساب ثقته بتماثلها الشديد مع الواقع، وهو ما لا يريده ميوك، ولا يتعمد نقله للمتلقي. بل كل ما يطمح إليه، أن ينظر المتلقي إلى تماثيله على أنها مجرد أشياء من الممكن إدراكها عبر الحواس والعقل. أشياء لا تمت بصلة إلى الناس الأحياء «رغم تماهيها الكبير معهم» لكن يسعد ميوك أن يختلط الأمر على المتلقي في تحديد ذلك، ما يدفعه لمحاولة مشاهدة أعماله أكثر من مرة، وبالتالي التفاعل معها، وتأملها بعمق شديد، ليدرك بعدها حقيقة كونها واقعيّة مئة بالمائة، وخيالية مئة بالمائة أيضاً! يعالج ميوك في أعماله الجسد الإنساني كاملاً، أو وجهاً، ضمن وضعيات مختلفة «نائم، جالس، واقف، مقرفص». ولكي يماثل عمله مع الواقع، يحرص على نسبه الواقعيّة، وتشريحه السليم، ولون البشرة اللحميّة الحقيقيّة، ووضع الشعر الطبيعي، وإلباس بعض تماثيله، ثياباً وأحذية، أو وضعها في سرير حقيقي مؤلف من الإسفنج والقماش والخشب، أو جعلها في وضعية الحوار والمحادثة، أو الصمت المطبق، أو الموت السريري، أو القرفصاء المتأملة والمتألمة، أو ضمن وضعيات أخرى كثيرة. وهي تماثيل كبيرة الحجم جداً، أو صغيرة الحجم، ومن خلال هذه المفارقات العجيبة في حجومها، والدقة المدهشة في واقعيتها، والخيال المجنح في حركتها ووضعيتها، والتعبيرات المتباينة التي تجسدها، يقف المتلقي أمامها مدهوشاً من الحالات المتناقضة التي تمثلها. فهي واقعيّة وخياليّة، جميلة ومتوحشة، أليفة وصادمة، بسيطة وعميقة، بقدر ما تبدو تلقائيّة ومباشريّة، ترشح بأبعاد نفسيّة «سيكولوجيّة» تقول الكثير، عن أزمة الإنسان المعاصر وتوحده وبرودة روحه وأحاسيسه التي قذفت به إلى حالة عميقة من التوحش، والاغتراب عن الذات.
بعد كل هذا، هناك من يتساءل: هل مهمة الفن مقاربة الواقع، وتمثله بشكل حرفي، أم أن عليه الذهاب بعيداً، في رصده لهذا الواقع، وتفكيكه، وإعادة تشكيله من جديد، وفق رؤية الفنان، وثقافته، وخبراته، وموقفه مما يجري حوله، من قضايا ذاتيّة وموضوعيّة، لاسيما بعد أن انوجدت وسائل تعبير جديدة أقدر على مقاربة الواقع وتجسيده، بكامل أبعاده وتفاصيله؟!