الألفية الثالثة ما عدا رواية «أرض السواد» لعبد الرحمن منيف. وتعلل هذا الاختيار بتفجيرات 11 أيلول، حيث تنامتْ ظاهرت الإسلام فوبيا والعداء تجاه المسلمين والعرب، بالإضافة إلى أنّ الآخر لم يعد يقتصر على الغربي، بل دخل ضمنه الآسيوي والأفريقي وبالطبع المغتصب الصهيوني لأرض فلسطين.
ومن خلال هذه الاختيارات ستدرس د. ماجدة الأنا والآخر، مؤسسة بحثها النظري والتطبيقي على تعدد الأصوات/ البوليفونية، وخاصة لجهة التمييز بين صوت المؤلف وصوت الشخصيات معه أو فيما بينها، معتبرة هذا المدخل هو الأفضل لدراسة علاقة الأنا بالآخر.
تجد الباحثة أنّ الرواية العربية مازالت خاضعة لأحادية صوتية في أعمها الأغلب، بحيث نجد الكاتب كلّي المعرفة أو لنقل يفرض توجهاته الفكرية على شخوص الروايات، رغم المحاولات الحثيثة منه للتخلص من ذلك العطب، فمثلاً تجد حنا مينه يؤطر شخصياته أيديولوجياً مما يعقمها واقعياً. كذلك حيدر حيدر في روايته «وليمة لأعشاب البحر».
وتعود الباحثة بالزمن إلى إرهاصات الرواية العربية، من «زينب» هيكل إلى وجودية الستينات في محاولة لنبش جذور التأثر بالآخر الغربي في فن الرواية. وتؤكد على أنّ ما سمح للغرب بأن يخطو خطوات هائلة تكمن في ممارسته للنقد الذاتي ومساءلة المعطيات دوماً، لكن بنفس الوقت نجد هذا الغربي يؤطر نفسه بنظرة استشراقية حكمتها أطماع استعمارية ورؤية حلمية لهذا الشرق الذي عرفه من خلال «ألف ليلة وليلة» وحريم السلطان وما ذلك إلا صراع قديم يتجدد بين هذا الشرق والغرب، ما خبتْ شعلته أبداً.
بعيداً إلى هنا
رواية إسماعيل فهد إسماعيل التي يرصد بها حياة خادمة سيريلنكية تدعى « كوماري» يتم استقدامها للعمل لدى إحدى الأسر الكويتية، بعد أن ضاقتْ بها سبل الحياة في بلدها إذ طُرد أبوها من عمله نتيجة سكره وإصابته بالسرطان، فلم تجد أمام هذا الواقع إلا السفر للعمل كخادمة. تُقدم الرواية رؤية الخادمة، وتعقد مقارنات بين حالها هنا وحالها في بلدها، إلى أن تصل إلى السجن وتنتحر فيه، نتيجة اتهامها بالسرقة من ربة الأسرة. وكانت قد وجدت عزاءها عبر طفل العائلة التي وجد بها أمّه الحقيقة، حتى أنه كان يناديها «ماما كوما».
عرضت الباحثة لعلاقة الأنا والآخر وفق منظومة تعدد الأصوات التي أطلت بها على الاختلافات الفكرية والاثنية والعرفية والتقاليد، مثمنة للكاتب إطلاق صوت شخصية كوماري.
وهكذا فقد قدمتْ الرواية الأنا من خلال مرآة الآخر، بسلبياته وإيجابياته، لكن لا بد من القول: إن الكاتب لم يلجأ لهذه الحيلة الروائية بسبب واقعية الحال وكثرة الخدم في بلاد النفط، بل لأنّ التصريح بسلبيات المجتمع سيكون له ردّ أكثر قساوة فيما لو خرج من ابن جلدته. فالكاتب باستعارته الخادمة لم يخرج عن النظرة الدونية التي ينقضها. وفات الباحثة رؤية ذلك، فهو استقدمها لتحمل على لسانها مقولاته. وبالتالي فإن الآخر المفترض في هذه الرواية لم يكن آخر أبداً، إذ الكاتب يلعب لعبته بمكر كبير، فنجد الطفل ينادي الخادمة بـ «كوما»، والكوما هي الغيبوبة المرضية، أي أنّ الدلالة للأم أصبحت الغيبوبة، وبذاتها دلالة الأمّة أي البلد. فالكاتب من خلال هذه الإيحاءات يعلن عن أنّ بلده في غيبوبة. وكيف لغيبوبة أن تبني وتربي أطفالاً؟
لا أظن أنّ الرواية تصلح معياراً لمقاربة إشكالية الأنا والآخر، فالسطح الدال على هذه الثنائية ترفضه الدلالات التأويلية المبطنة التي بثها الكاتب بحذر عبر عموميات، قاربتها الباحثة بعموميات أخرى عن العرب والإسلام. في حين أنّ المشكلة في التفاصيل، إذ إن الصراع مع الآخر قد تجاوز العموميات وخاصة بعد مصطلح القرية الكونية، وبذاته هذا المصطلح الخادع الذي يدل على التقارب الإنساني، وإنْ كان على صعيد العموميات.
وكما يذكر «ريجيس دوبريه» في كتابه مديح الحدود: «إنّ هذا المصطلح لم يؤد إلا لسهولة عبور السلع والنقود والبضائع في حين قد أنشئت الكثير من الحدود المسيّجة بعده».
تصلح قراءة هذه الرواية لزمن مضى، كانت فيه وسائل الملتيميديا في زمنها الحجري وليس في بداية الألفية الثالثة، بحيث بنقرة واحدة نشم روائح العشوائيات ومدن الصفيح.
إنّ مقاربة الآخر لن تكون بالاعتماد على كلمات وجمل ومصطلحات السّاسة والاقتصاديين والتي تظهرها وسائط الميديا، فالمعروف أنّ هؤلاء الرجالات لا يستخدمون أكثر من خمسمائة كلمة للتعبير عن شؤون العالم، فالتعميم هو المنجى الوحيد لهم من سؤال النقد وعليه، فالرواية إنْ كانت تريد معالجة هذا الموضوع لن يكون بتقديم عموميات وأيضاً البحث لن يكون بتقديم عموميات، فكلمات مثل محبة وإنسانية وتعاطف تصلح لخطاب ميديوي وليس بحثي.
كتاب الأمير
هو رواية واسيني الأعرج الذي تناول فيه حياة الأمير عبد القادر الجزائري. وقد وفقتْ الباحثة بالكشف عن التسلط الذي مارسه الروائي على الشخصية وإخراجها من لبوسها، فقد تحول هذا القائد العظيم إلى آخر يريد عن طريقه الروائي أن يجبّ تاريخ الاستعمار الفرنسي للجزائر، وكأنّه يريد أن يفتح صفحة جديدة مادام الاحتلال قد زال، فلماذا الضرب في الميت!؟
لقد مسخ واسيني الأعرج الأمير عبد القادر، وشطب من تاريخ هذا الصوفي المجاهد كلمات مثل الاستشهاد والجهاد ضد المستعمر، وكأنّ الإسلام فوبيا بعد أحداث الحادي عشر من أيلول قد أصابت الكاتب وليس الفرنسيين، إذ أن الرواية كُتبت بعد تلك الأحداث.
قالت الباحثة حمود: إنّ كلمة الأمير لا تشير لميكيافلي. وأظنّها أخطأت لسببين، الأول التغيير الذي أجراه الروائي على شخصية الأمير عبد القادر هو تغيّر يصب في لعبة السياسة ويزكي العلاقات الجديدة التي قامت بين وفرنسا والجزائر، فقد أخذ الكاتب في حسابه تلك العلاقات وخاصة ما تسمح به الفرانكفونية من تبادل ثقافي. وهنا يكون العنصر الثاني بأن يكون للكتاب طريق للترجمة إن لم يكن قد كتب أصلاً بالفرنسية واعتماده دليلاً على رؤية جديدة من قبل الجزائريين الذين سترى الفرانكفونية الروائي واسيني الأعرج يمثلهم.
أسباب الاختيار السابق
درجتْ مقولة تعود للروائي حنا مينه: إنّ الرواية ستكون ديوان العرب. وكما درجتْ سابقتها عن الشعر بالإضافة لمقولات باختين وجيرار جينيت عن سعة صدر الرواية لأن تهضم كلّ السيرورة والصيرورة المجتمعية. وبالطبع هذا فيه من التعميم الكثير، وكالعادة أكثر المقولات شهرة هي أكثرها خطأ. وقد ذكرتُ ذلك لكي نعود لنقف أمام وضعية الرواية العربية ومساءلتها، كيف لرواية لم تلحظ الآخر ضمن المجتمعات العربية من الماء إلى الماء، بحيث أنّ الوطن العربي أشبه ببابل بعد بلبلة ألسنة أهلها، فالآخر الديني والمذهبي والطائفي والعرقي والإثني والجنسي يمور بين ظهرانيها!؟
كيف لرواية لم تعالج آخرها، ابن بطنها أنْ تتصدى لآخر غريب!؟
يأتي الجواب أنّ الرواية العربية مقموعة في هذا الجانب، فلجأت إلى الآخر الغريب تحمله همومها.
ومما بدا لي أنّ هذا اللجوء يعوزه الكثير من التمحيص، فلا يمكن لعلاقة بآخر تقوم على الصدمة أو الخيال أن تنتج أدباً يعبر بصدق عن الواقع بعد التعبير عنه جمالياً!
لا أريد أن يفهم مما سبق أنّ القراءة هذه فيها من التطرف، لكن أية قراءة لن تكون صحية إلا بإنتاج نص يأمل فيه التوازي، إذ عادة ما ينقص أو يزيد عن النصّ المقروء.
إشكالية الأنا والآخر، نماذج روائية عربية، كتاب مهمّ ويجب التوقف عنده كونه خطوة في مقاربة الأنا والآخر، حتى لو كان هذا الآخر هو البعيد وليس القريب.
الكتاب تأليف د. ماجدة حمود وهي أكاديمية سورية. يتناول الكتاب في ثمانية فصول ثماني روايات عربية هي: «بعيداً إلى هناك»، لإسماعيل فهد إسماعيل، «خارطة الحب» لأهداف سويف، «حجول من شوك» بثينة خضر مكي، «ربيع حار» سحر خليفة، «أرض السواد» عبد الرحمن منيف، «اليهودي الحالي» علي القمري، «سهرة تنكرية للموتى» غادة السمان، «كتاب الأمير» واسيني الأعرج.
واختارت الباحثة هذه الروايات لتمثل ثماني دول عربية هي: الكويت، مصر، السوادن فلسطين، السعودية، اليمن، سورية، والجزائر. وفي الوقت نفسه تثير تلك الروايات إشكاليات عدة ترتبط بمفهوم الهوية والعلاقة مع الآخر، وليس فقط «الآخر» الغربي أو الاستعماري، بل الآخر بتجلياته المختلفة سواء الشرقي الآسيوي أو الصهيوني أو الغربي أو المستعمر. كما لا يقتصر تحليل العلاقة على الجانب السلبي والصراعي، بل يشمل جوانب أخرى متنوعة قد تكون إيجابية. وانتقت حمود هذه النماذج تحديداً، لأن معظمها باستثناء رواية عبد الرحمن منيف، كتبت عقب أحداث 11 سبتمبر وما ترتب عليها من تداعيات.