أثارت رد فعل الناقد الأدبي «فرانك ريموند ليفس» بقوله إن هناك فقط ثقافة واحدة هي ثقافة الأدب. لا يهم إذا كان عامة الناس يجهلون العلوم الأساسية، لكن الجهل في شكسبير هو الذي يهم. هذه الرؤية أغفلت النقطة الرئيسية في جدال سنو وهي إذا كان ذلك هو الانطباع السائد بين الأدباء فلا يجب أن يكون كذلك.
ارتكزت محاضرة سنو جزئياً على مقالة كتبها لمجلة نيو ستيتسمن عام 1956. ذكر فيها: “نحن يجب أن نتعامل مع جميع الأسئلة الحالية السياسية والاجتماعية والدينية والفكرية.. يجب أن نكافح لمواجهة واختبار القضايا السياسية والاجتماعية في نفس الروح التي يواجه ويختبر بها الكيميائي عيناته المختبرية، دون تجاهل لأي من العوامل الأخرى، وعدم الركون إلى أي افتراضات مسبقة، نسعى فقط إلى اكتشاف ونشر الحقيقة مهما كانت”.
سعت تلك المقالة إلى عدم إثارة القرّاء كثيراً فتوسعت في استعارتها العلمية بتأكيدها أن “المشاكل الاجتماعية هي في الواقع لا تستجيب للتحليلات العلمية وفق الفهم الشائع لتلك المشاكل، طالما لا يمكن وزن الكائنات البشرية بالوحدات أو قياسها بالمايكروميتر”. إنها ربما كانت رؤية معقولة، لكن الزمن قد تغير الآن. اليوم لا يوجد إلا القليل من المشاكل الاجتماعية لا تُعالج بقياس مظاهر الشعور الإنساني أو السلوك أو الشكل المادي. انظر إلى المخاوف الحالية من وباء السمنة، المستند أصلاً إلى إحصاءات مكثفة فيها يتم قياس مختلف أوزان الناس. كان لدى محرر النيوستيتمن حدس أكيد بأن مثل هذه التغييرات وشيكة الحدوث حين أضاف: “ما لم يوجد هناك ما يطبّق على «المشاكل الاجتماعية» وبدرجة من الروح العلمية المستقلة، فهي سوف لن تُحل بنجاح. رعاية هذه الروح العلمية وتطبيقها الهادف على القضايا الحالية الشائكة هي المهمة التي سخّرت المجلة نفسها لها”. إنها مهمة جديرة بالتقدير، سارت بثقة ونجاح بارزين: إنها مهمة لم تنته بعد وهي أكثر أهمية مما كانت عليه قبل قرن.
تقلص الانقسام الثقافي بين الفن والعلوم بشكل ملحوظ منذ محاضرة سنو وجرت مناقشة القضايا بشكل مكثف، لذا نحن الآن نمتلك فهماً أفضل عن طبيعتها. ولكن، ربما من الصحيح جداً القول إن ذلك الانقسام قد اتسع بفعل عدة جسور بدلاً من أن يكون أقل حجماً. بعض هذه الجسور كبيرة وقوية ولكن العديد منها مخلخلة ويمكنها السقوط في أي لحظة. نحن لا نزال ندرّس طلاب العلوم بطريقة مختلفة عن الطريقة التي نعلّم بها طلاب الفن. ولكن كلا التيارين من الفعالية الفكرية يعترفان الآن بوجود الآخر وأن لكل منهما مساهماته القيّمة للحياة الفكرية للمجتمع الإنساني.
غير أن هناك ثقافة ثالثة شغلت حياة المفكرين الرياضيين. إنها تتداخل مع الفن والعلوم لكنها لن تحتوي على أي منهما، ولا هي اتحاد منهما. إنها تشبه كليهما ومع ذلك هي متميزة بما يكفي ولدرجة يصعب نسبتها إلى أي منهما. إنها الموضوع الوحيد الذي تُمنح فيه درجة البكالوريوس في بعض الجامعات إما كبكالوريوس في الفن أو كبكالوريوس في العلوم – عن إنجاز نفس العمل. الموضوع هو الرياضيات، وإن ثقافة الرياضيات الفرعية أسيء فهمها كثيراً من جانب غالبية الناس، سواء كانوا علماء لامعين أو فنانين أو سياسيين وبيروقراط.
لم يكن «ليفيس» ضد العلم، لقد شعر فقط أن العلم لم يلعب دوراً في الثقافة. أنت لا تحتاج لتفهم العلم لتعتبر نفسك متعلماً، لكن العلم امتلك قيمة تجريبية. الرياضيات عادة تنال تعاملاً سيئاً من الناس الذين يتباهون بجهلهم كما لو كان فضيلة. لا يمكن أن تكون هذه آلية صحيحة للدفاع عن النفس. عندما تقابل رياضياً، ستستمع إلى عبارة “أنا لم أكن جيداً في الرياضيات في المدرسة” كأسلوب حماية ضد وجوب التورط في الموضوع. العبارة عادة يتبعها “أنت يجب أن تكون ذكياً جداً” والتي هي أيضاً أسيء فهمها بنفس المقدار.
أحدثت الرياضيات تغيرات هائلة في عالمنا وشمل تأثيرها كل مظاهر المجتمع. إنها شديدة الإبداع وتتقدم الآن بسرعة أكبر من أي وقت مضى. مع ذلك، معظم الناس غير واعين بماهية الرياضيات، وماذا تعمل أو لماذا تستحق الاهتمام. والأسوأ، هم يتصورون أنهم يعرفون الجواب لجميع تلك الأسئلة ولم يخطر ببالهم أبداً أنهم مخطئون.
ذلك لم يكن عيباً كلياً لهم. لكي تكون الرياضيات مفيدة في مجتمع اليوم، يجب أن تكون غير مرئية. إذا كان مطلوب من كل شخص يستعمل تلفون الموبايل أن يدرس الـ phD في الرياضيات، سوف لن يكون الموبايل جذاباً للأسواق الكبيرة ولا للمصنعين. ولكن بدون وجود عدد هام من المهندسين المختصين بالرياضيات المتقدمة التي يلم بها عدد محدود من الرياضيين، فسوف لن يعمل الموبايل فون. إشارات الموبايل ستكون ضئيلة جداً لدرجة يستحيل معها فهم ما يقوله الطرف الآخر، وستكون طاقة الشبكة صغيرة لدرجة تجبرنا على تنظيم حجز للمكالمات قبل وقت من الزمن – كما كان الحال عند عمل مكالمة دولية وقت إلقاء سنو لمحاضرته.
ليس واضحاً تماماً لماذا تشغل الرياضيات مثل هذا الموقف الغريب متأرجحة بشدة في الثغرة بين العلم والفن دون أن تكون أي منهما. أسباب ذلك تعود تاريخياً إلى عصر النهضة عندما كانت الفنون الليبرالية السبعة تضم الفنون الثلاثية «النحو والمنطق والبلاغة» والرباعية «الحساب والهندسة والموسيقا وعلم الفلك». اثنان من هذه، الحساب والهندسة هما رياضيات وكذلك كان علم الفلك في ذلك الوقت.
في الواقع، في القرن السابع كانت الرياضيات في الهند فرعاً من علم الفلك. وفي العصر الحديث، أصبح أيضاً المنطق جزءاً من الرياضيات، وشكّل الأساس لفكرة إقليدس في البرهان. ومن جهة أخرى، تُعتبر الموسيقى وبوضوح عملاً فنياً، مع أنها ذات سمات رياضية مثل بناء الأوزان الموسيقية. أما النحو والبلاغة فيشيران إلى الأدب.
ثقافة ثالثة
لاحقاً، اكتسب تطبيق الرياضيات على علم الفلك دوراً قوياً ضمن العلوم الفيزيائية وذلك بفضل كبلر وغاليلو واسحق نيوتن وآخرين. «المبادئ الرياضية للعلوم الطبيعية» لإسحاق نيوتن كشفت عن “نظام العالم” من خلال قوانين الرياضيات. وحتى لو كانت الرياضيات ليست علماً بذاتها إلا أنها أصبحت بسرعة أداة لا غنى عنها في العلوم الفيزيائية. السبب الرئيسي لعدم اعتبارها علماً حقيقياً هو:
1- أن الحقائق الرياضية تتأسس بالمنطق وليس بالتجربة.
2- الرياضيات أيضاً تنقصها حرية التعبير الهامة جداً للفن، لأن الرياضيات مقيدة جداً بالحاجة لتكون منسجمة منطقياً. الرياضيات الإبداعية تمتلك الحرية في تثوير وجهة النظر وخلق المفاهيم، إنها تستطيع تغيير ما يراه الرياضيون ضرورياً لكنها لا تستطيع قلب الحقائق القائمة. هي تستطيع تعديلها لتتناسب مع السياقات المتغيرة. نظرية فيثاغوروس هي كاذبة في الهندسة اللاإقليدية، لكنها حقيقية في الهندسة الإقليدية.
ولأن الرياضيات ليست علماً بالكامل وليست فناً واضحاً، فإنها عُدت من بين العلوم وذلك لأغراض تتعلق بتمويل الحكومة والإدارات التعليمية – «بكالوريوس في الفن وبكالوريوس في العلوم». لو أنك أُجبرت على الاختيار بين الاثنين، فيجب أن يكون الاختيار للعلوم. الشيء الجيد هو أن الرياضيات كعلم تجذب تمويلاً أكثر مما يجذبه الفن، الشيء السيء أنها مهمشة، مقتصرة على المهمات الخدمية البسيطة، تمويلها مثير للشفقة مقارنة بتمويل فيزياء الجسيمات وعلم الفلك الراديوي وعلم الجينات.
النمو الاقتصادي
هذا بوضوح هو شيء مخزٍ. في دراسة جرت لحساب الحكومة الأمريكية وُجد أن علوم الرياضيات – النقية والتطبيقية والإحصاء وعلوم الكومبيوتر ساهمت في الاقتصاد الأمريكي بـ 37 ترليون دولار في العقد الأول من هذا القرن. تقرير عام 2012 الخاص بقياس الفوائد الاقتصادية لبحوث علوم الرياضيات في المملكة المتحدة، الصادر عن Deloitte، استنتج أن 2.8 مليون إنسان حصلوا على وظائف في مجال علوم الرياضيات في عام 2012، بما يساهم بحوالي 208 بليون باون «قيمة مضافة إجمالية» للاقتصاد في تلك السنة. المجالات الرئيسة كانت البحوث الصناعية والتنمية، خدمات الكومبيوتر، الفضاء، المستحضرات الصيدلانية والفعاليات المعمارية والاستشارات، وهي قائمة قد تدهش العديد. مع ذلك ظلت الرياضيات هي الأفقر تمويلاً بين العلوم.
لو أن 10% فقط من الـ 9 بليون دولار المخصصة على تجربة معجّل جزيئات الطاقة التي أجريت في سويسرا خُصصت للبحوث في علوم الرياضيات، فإن المنفعة للمجتمع ربما كانت أكبر بكثير وقد تحدث بسرعة أكبر. إن تطوير الجيل القادم من الكومبيوترات العملاقة وهي الخطة التي تقدر تكاليفها بواحد بليون دولار، تواجه صعوبة كبيرة في العثور على التمويل اللازم لها. النتيجة ستكون إيجاد ماكينة ذات تطبيقات في جميع العلوم – على سبيل المثال، في تغيرات المناخ وفي تصميم مواد خام جديدة ومصادر بديلة للطاقة – وهي سوف تسيطر على مستقبل تكنولوجيا الكومبيوتر.
وفي المدى البعيد، سيكون لجزيئات الطاقة غير المرئية «Higgs» تطبيقات هامة، ولكن حتى الآن كانت المحصلة الإيجابية الرئيسية هي في تكنولوجيا جديدة لصنع مجسات الجزيئات. مثل هذه الفوائد كان بالإمكان الحصول عليها بسرعة أكبر من خلال مشاريع أرخص كلفة وأكثر تركيزاً. هذا لا يعني الحط من قيمة فيزياء الجسيمات أو الدعوة لتقليل تمويلها، ولكن الحكومات بحاجة إلى الاعتراف بقيمة علوم الرياضيات وزيادة تمويلها بشكل هام.
الرياضيات ليست مثيرة كماكينة عملاقة، بل هي استثنائية في تعدد استخداماتها وفوائدها مكثفة ومتنوعة.
الاستخدامات المتعددة للرياضيات
في عصر الديجيتال هذا، يصعب عمل أي شيء بدون إشراك الرياضيات. لنأخذ مثالاً من بين مئات الأمثلة، النظام العالمي لتحديد المواقع المستخدم في خارطة طريق السيارة، يعتمد على مجالات متعددة من الرياضيات ومختلفة كلياً. إن نظرية الأعداد تُستخدم لتوليد سلسلة من أرقام عشوائية تُستخدم بمثابة طريقة لمقارنة الأوقات التي تأخذها إشارات الراديو للوصول إلى سيارتك من مختلف الستلايتات الأرضية.
يستطيع علم المثلثات حساب موقع سيارتك من تلك الأوقات. الفيزياء الرياضية بشكليها النسبية العامة والخاصة مطلوبة لمنع حركة الأرض ومجالها من الجاذبية من التسبب في انحراف الموقع المحسوب عن الموقع الحقيقي. قوانين نيوتن في الجاذبية والحركة استُخدمت لحساب مسارات انطلاق الستلايت. الرياضيات أيضاً أصبحت الآن ضرورية في علوم الحياة. بحث بايولوجي حديث أوضح أن هناك نموذجين رياضيين قديمين للتطور- نمو الأجنة وشكل الكائنات الحية – هما صحيحان تماماً.
إحدى هذه النظريات الرياضية تعود إلى عام 1952 عندما كتب «آلن تورنك» معادلات لنمذجة تكوين العلامات الحيوانية مثل البقع والخطوط. والأخرى تعود إلى عام 1976 عندما اقترح كل من جوناثن كوك وكريستوفر زيمان نموذج «الساعة وانحدار الموجة» لتكوين الحلزونيات والفقريات.
النماذج الرياضية أيضاً تلعب دوراً هاماً في دراسة السرطان، موفرة اتجاهاً تقليدياً من خلال الجينات والكيمياء البايولوجية عبر توجيه الاهتمام للآليات الفيزيائية التي بواسطتها تنمو الخلايا السرطانية وتنتشر، وتسمح للأطباء بمقارنة مختلف استراتيجيات معالجة الأمراض.
إن الاستخدامات الروتينية للرياضيات هي دائماً حيوية للمجتمع الحديث وهي بالآلاف. إنها تتضمن استخراج البترول وعلم الجريمة وتربية النباتات ونمذجة المناخ وتوقعات الطقس وتجارة سوق الأسهم وتصميم الطائرات والوقود الفعال والطاقة المتجددة وتأثيرات الـ CDs و DVDs والغرافيك في الأفلام ومحرك غوغل للبحث وكاميرات الديجيتال والتليفونات الأنيقة والتلفزيونات ثلاثية الأبعاد وخلايا الكومبيوتر والتحقق من السوفت وير والايدز وأمراض القلب ومكائن الترجمة للغات الأجنبية.
الفنانون من كل المذاهب يستمدون الإلهام من العلوم والرياضيات. النحات «بيتر راندال» استخدم الهندسة والرياضيات بشكل واضح في الأشكال الطبيعية. غير أن طبيعة وأهمية الرياضيات لا تعتمد كلياً على استخداماتها التطبيقية أو على مزاياها الفنية. إنها تختزن اهتماماً فكرياً داخلياً وجمالاً متفرداً. إن سبب الصعوبة في التمكن من طبيعة الموضوع هو أنها تضم عدة عناصر متباينة في هيكل معرفي واحد دائم التغيير والنمو. إنها تطبيقية، دقيقة، غامضة، مجردة، متجذرة في الطبيعة وفي التصور الإنساني، تاريخها يمتد إلى 4000 سنة وما اكتُشف في الزمن البعيد عادة هو صالح ومهم تماماً كما هو اليوم.
إنه لأمر مذهل، أن تزداد الرياضيات بما لا يقل عن مليون صفحة في السنة وهي دائماً شيء واحد. علاقاتها الداخلية تربط موضوعات مختلفة كلياً في ويب معقد ومتغير ديناميكياً، ليكون ما هو غاية ميتة بالأمس فجأة يصبح تكنيكاً ضرورياً اليوم.
الرياضيات هي التي أدخلت المشاكل الاجتماعية ضمن مجالات العلوم. في عام 1835 نشر البلجيكي «أدولف كوتليت» تحليله عن معلومات الجريمة، نسبة الطلاق، الانتحار، الولادات، الوفيات، طول الإنسان ووزنه - وهي عوامل لا أحد كان يتوقع مطابقتها لأي قانون رياضي، لأن أسبابها كانت معقدة وتستلزم اختيارات إنسانية أو أحداث في الطبيعة. بدا من السخف الاعتقاد بأن العذاب المعنوي الذي يدفع الإنسان للانتحار يمكن اختزاله بمعادلة. وأنها ستكون معادلة صائبة لو أردت التنبؤ بالضبط بمن سيقتل نفسه. ولكن عندما ركز كوتليت على الأسئلة الإحصائية مثل نسبة حالات الانتحار في مختلف الجماعات، رأى نمطاً مشتركاً «على شكل منحنىU». بياناته أظهرت أن الناس بشكل جماعي يتصرفون بطريقة يمكن التنبؤ بها أكثر من الأفراد.
الإحصاء هو فقط طريقة واحدة تؤثر بها الرياضيات على المجتمع والثقافة الإنسانية. معظم التطبيقات الهامة للإحصاء هي في مجال الطب: من النادر العثور على دراسة طبية هامة خالية من الاستخدامات الإحصائية. النظام المالي العالمي أيضاً يتطلب جرعة ثقيلة من الإحصاء – عادة تكون سيئة كما لاحظنا في أزمة البنوك عام 2008. غير أن إعادة هندسة القطاع المالي العالمي ليكون أكثر استقراراً سوف يتطلب فهماً متطوراً ًجداً لكيفية عمل النظام، وذلك سيعتمد على رياضيات جديدة.
التصورات الخاطئة
الكثير منا ينظر إلى الثقافة الثالثة كشيء دُفعنا إليه دفعاً أثناء المدرسة، لا نفهمه، لا نحبه ولن نستعمله أبداً. إنها توجد فقط لصنع الجيل القادم من مدرسي الرياضيات. إنها بلا معنى وغير خلاقة ولم يحدث فيها أي شيء لمئات السنين لأنها بالأصل حدثت كلها سلفاً. وفق طريقة البرهان كل سؤال في مناهج الرياضيات له جواب في نهاية المنهج. لكن كل ذلك هراء. الخرافات تسود لأن عدداً قليلاً من الناس يدرك المدى العميق الذي توغلت فيه الرياضيات في أساسيات المجتمع. من المؤسف أن كلمة رياضيات تُستخدم لوصف ما يُدرّس في مستوى المدرسة. هذا العمل يقود الناس للافتراض بأن الرياضيات هي ما مارسوه، وهو الذي يتألف بشكل كبير من الحفر المتكرر في المشاكل المفتعلة. لماذا نتعلم كيفية الجمع أو الضرب للأرقام عندما بالإمكان استخدام الحاسبة؟ ذلك معقول لو أن الهدف الوحيد لتعليم الرياضيات هو تعلم الجمع والضرب، لكن تلك ليست هي المسألة. نحن نتعلم كيفية ضرب الأرقام وجمعها لكي نفهم ما تعنيه تلك العمليات. سوف لن نكون قادرين على التقدم نحو مستويات عليا في الموضوع ما لم نستوعبها لتصبح انعكاساً تلقائياً.
العديد منا لم يقم بدراسة الرياضيات. إذاً لماذا نفرض على الأطفال الكارهين للرياضيات أن يتعلموها؟ لماذا لا نسمح لهم بالخروج وممارسة رياضة كرة القدم؟ افرض أنك تحدثت إلى أحد الآباء وقلت له: من الواضح أن ابنك غير جيد في الرياضيات، ومحاولتك تعليمه هي مضيعة للوقت. ذلك يعني أن ذلك الطفل سوف لن يكون أبداً مبرمج كومبيوتر أو كابتن طائرة أو جراحاً أو ممرض عيون أو كهربائياً أو تاجر عملات أو مهندساً أو إحصائياً طبياً أو سمكرياً. ولكن كما نعرف سلفاً، بدون السماح للطفل محاولة ذلك فسوف لن يكون قادراً على النجاح.
سوق العمل
إن الاعتقاد بأن الوظيفة الوحيدة لخريج الرياضيات هي التعليم هي خرافة وفكرة سخيفة. لو كان ذلك صحيحاً لقامت الحكومات بسحب الرياضيات من المنهج قبل وقت طويل باعتبارها مضيعة للوقت. الحقيقة هي العكس بالضبط: القليل جداً من خريجي الرياضيات يذهبون للتعليم لأن العديد من الوظائف ذات الرواتب العالية وظروف العمل الجيدة متوفرة لكل من لديه شهادة في الرياضيات. إن نطاق المهن المتوفرة لخريجي الرياضيات واسعة، لأن الرياضيات ذات تطبيقات واسعة جداً. الاستبيانات تشير إلى أن الطلاب الحاصلين على بكالوريوس في الرياضيات يستلمون رواتب أعلى قياساً بمن درسوا موضوعات أخرى.
لا يجب النظر إلى الرياضيات كموضوع مزعج وكسول وتكراري، بل هي إبداعية وخلاقة. ربما هي أكثر المجالات الإبداعية في النشاطات الإنسانية. لكن الجانب الإبداعي يبرز فقط عندما ننظر بكيفية مجيء الرياضيات الجديدة إلى الوجود. معظم مدارس الرياضيات تشبه ممارسة السلالم الموسيقية. البحث الرياضي يشبه تأليف إيقاعات جديدة، سونوتات، وحتى سمفونيات. مع ذلك يمكنك الاستماع للموسيقا العظيمة دون الحاجة لتكون ملحناً. يصعب جداً تقدير جمال الرياضيات دون القيام بها. الرياضيات ليست متفرج مباراة وهي لم تكن كذلك حتى وقت متأخر.
رؤية برتراند راسل
كتب برتراند راسل عام 1913 في مجلة نيوستيتمن قائلاً: “إن ميل المجتمع لنقد العلوم ليس هو عيب العلوم ذاتها، وإنما العيب في الروح التي تُدرّس بها العلوم. لو أن العلوم بلغت إمكاناتها القصوى من خلال الأشخاص الذين يدرّسوها، فإن قابليتها على إنتاج عادات الذهن التي تشكل أعلى تفوق ذهني ستكون بنفس عظمة الأدب”. راسل أكد على خصوصية جمال الرياضيات. الرياضيات تمتلك ليس فقط الحقيقة وإنما الجمال الأسمى.
الانطباع العام هو أننا نعيش في العصر الذهبي للرياضيات. الاكتشافات تحصل بنسبة متسارعة، المشاكل القديمة تتهاوى. الكومبيوترات تقدم المساعدة أحياناً لكن العمل الحاسم يتم بواسطة “الخلايا الرمادية الصغيرة”. إن ميل الموضوع إلى التجريد في الستينيات من القرن الماضي، الذي انتقدهُ المراقبون كتأمل ذاتي عقيم، أثبت بالضبط ما ادّعاه الممارسون في ذلك الوقت، إنها حركة جوهرية نحو التعميم ووضوح الفكرة التي ستفتح آفاقاً جديدة لكامل الموضوع.
إن العديد من المشاكل الكبرى مثل نظرية «fermat» الأخيرة في العدد، وحدس «كبلر» حول أكثر الطرق فاعلية في حزم المجالات إلى بعضها، ووصف «Poincare» للمظاهر الأساسية لتيبولوجيا الأبعاد الثلاثة كلها حُلّت في السنوات الأخيرة عبر تطبيق وجهة نظر تجريدية. المراقبون ربما يجدون تلك الطريقة من التفكير غير مريحة لكنها أثبتت قيمتها عدة مرات. في الستينات، قامت أقسام الفيزياء بإرشاد طلابها لتجنب دراسة كورسات في الرياضيات لأنها ستدمر عقولهم. اليوم في بريطانيا يوشك مجلس البحوث البايولوجية والبايوتكنولوجية أن يطلب من جميع طلاب الدكتوراه في البايولوجي أن يدرسوا كورساً في الرياضيات مصمم خصيصاً.
رسل كتب أيضاً في مقالة له “إن الحياة التي خُصصت للعلوم هي حياة سعيدة، وسعادتها مشتقة من أفضل المصادر المفتوحة للمقيمين في هذا الكوكب المضطرب والانفعالي”. وكذلك بالنسبة للحياة المخصصة للفنون، وتلك الخاصة بالرياضيات. التنوع في التفكير الإنساني يجب الاحتفال به لا تقييده بواحدة فقط من الثقافات الثلاث وفق أساس مزيف من التفوق المزعوم. حينما تتضاءل الموارد ويتعاظم الانفجار السكاني ويصبح تأثيرنا على الكوكب رهيباً ومرعباً، سوف نحتاج لأي وسيلة نستطيع بواسطتها البقاء. ثقافة الرياضيات الثالثة والمُتجاهلة عادة ستكون حيوية هنا. حان الوقت لتحريرها من دورها الثانوي والسماح لها لتأخذ مركز الصدارة.