يؤلم الكثيرين فإن البعض يعتبره ربما نهاية المطاف بعد أن كانت أيامه حافلة بالحيوية والأنس والنشاط ليجد نفسه بعد هذه الرحلة الشاقة والمريحة معاً من غمرة عطاءات العمل وجهاً لوجه مع زوجته وابنائه وعائلته في جو يختلف بعض الشيء فيما اعتاد عليه والقيام به.
فقد يكون ثقيلاً عبر ملاحظاته واسئلته وتدخله بالشاردة والواردة وهذا لا يروق للعديد من الأسر التي تعيش يومها بهدوء نوعاً ما بعيداً عن تجاذبات الأب أو الزوج الذي اعتاد على نمط الاستيقاظ المبكر وإنجاز الأعمال بسرعة.
وبالجانب الآخر ربما يكون هذا الرجل أو ذاك خفيف الظل يحاول قدر المستطاع تعويض الأسرة من حرمان نالها طوال فترة عمله فأخذ ينظم برنامجاً للاستجمام ولو مرة إلى الحديقة العامة أسبوعياً على سبيل المثال لا الحصر والتكفل بقضاء حاجات المنزل وزيارة الأصحاب بين الحين والآخر في محاولة لخلق جو اجتماعي بعيد عن الرتابة والملل.
بين هذا وذاك أين يقف آدم ضمن هذه الدائرة الواسعة ليرتب حروف الحياة الثانية من جديد حياة التقاعد بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
أبو محمد اعتاد ارتياد الحديقة القريبة من حارته يمشي إليها كل يوم متثاقل الخطا غير آبه بما حفرته السنين من متاعب على قسمات وجهه, إنها الدنيا هكذا يا ابنتي قالها هذا الرجل السبعيني بقصة تبوح ما بداخله من ألم وحسرة على أيام مضت بين أنس المكان وصحبة الرفاق والاصدقاء..
بعد تقاعدي بشهر واحد أخذ كل شيء يتغير من حولي لم يعد أحداً من ابنائي يكترث أو يهتم بي حتى زوجتي التي لم أرخصها يوماً وابنائي السبعة الذين أفنيت حياتي من أجلهم لأضمن لهم مستقبلهم على أكمل وجه لكن (يا ضعيان التعب) لم أكن أعلم ما يخبئه لي القدر من نهاية كئيبة لاستراحة عمري التي ظننتها ستكون دافئة كقلوب العشاق ورحيمة كحضن الامهات.
أما أبو جورج فكان يدرك على ما يبدو ما ستؤول إليه الأيام والليالي في نهاية فترة العمل ليجد لنفسه شغلاً آخر في القطاع الخاص رغم بعد المكان الذي فضله على قربه وحين سألته عن ذلك الخيار قال لا ينقصني هماً آخر فوق همي فأولادي الثلاثة انهوا دراستهم الجامعية ولم يجد أحد منهم أي عمل ليعينني على متاعب الحياة وبدلاً من اللوم والعتاب والشجار فضلت المشقة والتعب وتحمل المرض والإهانة على أن يبقى جو المنزل مشحونا بإرادات وافكار لا تتوافق مع ابناء هذا الجيل الذي ينظر إلى الحياة نظرة مختلفة فيها الصواب وفيها الاتكال حسب نماذج كل أسرة وطريقة عيشها وحياتها.
في حين أبو جابر الذي وجد نفسه مخيراً للبقاء إما في منزله الصغير بالمدينة بين أسرته وعائلته أو في القرية التي ينعش هواءها العليل.. فاختار مسقط رأسه رغم كل وسائل الترغيب والاطمئنان.. إلا أن المشكلة التي واجهته هو أن جميع أبنائه مرتبطون بعمل في العاصمة ولا أحد قريباً منه في القرية فقبل العيش لوحدة بعد رفض الزوجة -الأم التي تعيش نارين بين رضا زوجها والاستجابة له وإعالة احفادها الصغار, وبعد فشل كل المحاولات أخذت المتاعب والهموم تكبر يوماً بعد يوم وتعيش العائلة حالة قلق دائم على هذا الأب -الزوج الذي لم يعد يطيق ولو لساعات أو أيام حياة المدينة وصخبها وإن كان قد أفنى زهرة شبابه في معاملها ومصانعها.
وبتعنته هذا خلق جواً مشحوناً داخل ا لأسرة فهو رغم مرضه الشديد لا يزال يعشق قطعة الأرض التي يزورها صباح مساء تحسراً على أيام خلت من الصحة والعنفوان ليجد نفسه في نهاية العمر أسير الجدران وحيداً لا يطيق أحداً بعد الخلافات العائلية التي ظهرت رغم أنف الجميع.
أما أبو كامل فكان يشغل منصباً رفيعاً في إحدى دوائر الدولة وتكاد البسمة لا تفارق ثغرة حتى في أحلك الظروف كما هو معروف عنه..
ولكن ما إن انتهت سنون الخدمة حتى انقلب هذا الرجل رأساً على عقب من متفائل إلى شخص آخر يلفه الغموض والانزعاج والقلق وخاصة خلال الفترة الأولى بعد تسليمه السيارة ومزاياها.
وبما أنه لا يطيق العيش في هذه الحالة, فكر ملياً بإيجاد عمل آخر كي يسلي نفسه به وعندما وجد ضالته في إحدى القطاعات لم ترق له طريقة التعامل,وحين سألته عن الهدف من إيجاد عمل آخر طالما المرء أفنى حياته في هذا المجال ألا يستحق بالتالي أن يبحث عن سعادة في عمل آخر وبلون مختلف بين الأسرة والاصحاب والاقرباء, فقال لي خجلاً سامحيني إن قلت لك بأن لحظة ما تركت مكتبي وعملي شعرت بأن روحي انتزعت مني.
فمن الصعب أن أتأقلم بهذه السرعة في البيت.. حيث انعكس شعوري الخاص هذا على تعاملي مع ابنائي وكادوا لا يطيقونني حتى أصبحت أتدخل في الشاردة والواردة حتى في وضع كأس الماء على الطاولة.
وفي السياق ذاته همست لي إحدى الجارات بأن زوجها حين خرج إلى التقاعد انقلبت حياته 360 درجة إذ أصبحت حياتنا مبرمجة كما عقارب الساعة, لا يحق لنا فعل أي شيء كما تقول إلا بإذنه وإرادته وملاحظاته,حتى وصل الأمر به في بعض الأحيان من كثرة الضجر أن يطلب من ابنه أو ابنته,القيام حيث يجلسون كي يجلس مكانهم لا لشيء فقط للنكد!
علما أننا نوفر له كل الراحة و الشعور بالرضا التام كونه أصبح يلازمنا باستمرار وتابعت قائلة إذا كانت نهاية التقاعد هكذا, تتمنى أن يستمر العمل حتى الموت?
فيما الصورة الأخرى أكثر إشراقا عند المتقاعد(أبو عابد) الذي وصف نهاية الخدمة بعيد ميلاد جديد يعيشه المرء بعد أن أفنى عمره بين خطوط الإنتاج وضجيج الآلات التي أذهبت بنصف سمعه على الأقل..لذلك فإنه يشعر عائلته بدفء ما بعده دفء كما يقول متعهدا على نفسه أن يعوض زوجته الصبورة المتفانية وأفراد أسرته عن كل ما فاتهم في زحمة الحياة وضغوطاتها..فهو المعين للزوجة بإنجاز الكثير من المسؤوليات المترتبة عليها و الرفيق والصديق لأبنائه الخمسة يقف إلى جانبهم يسمع مشكلاتهم ويقدم لهم النصح و الإرشاد في كل ما يعترض مسيرة حياتهم.
أما (أبو مصعب) فلم يكن يتوقع أن تثقل أيام التقاعد على نفسه وجسمه هكذا وإن كان هذا الشعور فيه شيء من التجني على مسيرة الحياة إذ إن لكل شيء في هذا الكون طاقة محددة يحتملها وإن كان الإنسان يتحدى كل شيء فعليه أن يعود نفسه على الصبر ويتكيف مع أسرته في نهاية خدمته بشكل أكثر انسجاما وعقلانية.
وأضاف: بصراحة كان لأولادي وزوجتي دور إيجابي جدا في جعلي أكثر راحة بينهم..لقد غمروني بحبهم وعطفهم, ومعاملتهم الحسنة هذه بددت كل مخاوفي التي انتقلت إلي مما سمعته ورأيته من تجارب بعض الأصدقاء الذين سبقوني إلى استحقاق التقاعد,وهذا ما جعلني أتعافى من مرضي حقيقة لأن الراحة النفسية هي طريق العافية الجسدية.