ولعل أبرز هذه العلل تراجع حماسة اليهود وخاصة الشباب منهم لخدمة هذا الكيان, الذي لم يعد مغرياً لمعظم يهود العالم, ولاسيما يهود الدول الغربية الأكثر تطوراً.
وقد أظهرت العديد من الدراسات والابحاث التي أعدتها معاهد يشرف عليها اليهود أنفسهم مثل معهد (هيبرويونيون كوليغ) الذي يشرف عليه الدكتور تسفيان كوهين وآري كلمان, وكذلك رأي العديد من الكتاب اليهود, وأبحاث قامت بها جامعة (كاليفورنيا ديفيس) وغيرها.
وكلها تشير إلى أن أكثر من نصف يهود الولايات المتحدة ولاسيما تحت سن ال 35 لم يعودوا يعتبرون أنفسهم منتمين إلى هذا الكيان, لدرجة أنه لم يعد يعني لهم شيئاً وجود أو عدم وجود إسرائيل.
فالشعور بالانتماء لهذا الكيان تراجع لدرجة أرعبت حكام إسرائيل وايديولوجيي الفكر الصهيوني, وأظهرت هذه الابحاث أن 52 بالمئة من يهود أميركا غير مبالين دمرت إسرائيل أم لا, وتتجاوز نسبة الشباب غير المبالين 54 بالمئة.
وتعود أسباب هذه الظاهرة المقلقة بل والكارثية بالنسبة لزعماء الوكالة اليهودية, إلى أن أغلبية اليهود يعيشون حياة مريحة في بلدانهم الغربية.
وتشير الاحصاءات إلى أن 90 بالمئة من يهود الدول الغربية يتمتعون بمستوى معيشة أعلى من مستوى المعيشة في إسرائيل, إضافة إلى أن معظم اليهود لم يشعروا بالانتماء لإسرائيل بسبب تصرفاتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة وغيرها من الأماكن في دول المنطقة والعالم.
وحيال ذلك فقد أخذت الوكالة اليهودية وحكومة إسرائيل وعلماؤها الاجتماعيون وضع خطط لبحث مواجهة هذه النتائج واتباع أساليب جديدة لتغيير موقف الشباب اليهود من إسرائيل بوصفهم الرافد الرئيسي لتغيير الوضع الديمغرافي في إسرائيل ليصبح أكثرية إسرائيلية وأقل ما يمكن من العرب, وإذا ما اتيحت لهم الظروف طرد جميع العرب من فلسطين .1948
ويرى البعض أن أفضل طريقة هي تهويد المناطق العربية داخل ما يسمى الخط الأخضر, ومنع توطين العائلات الفلسطينية في تلك المناطق ورفض حق العودة بشكل مطلق, وعودة من يخرج من تلك المناطق ولو كان غيابه مؤقتاً.
وتسعى الوكالة اليهودية لوضع خطط جديدة لإعادة توثيق العلاقات مع من تسميهم (يهود المهجر) ولتحقيق هذا الهدف وضعت مشروعاً لإقامة اكاديمية لقيادة (الشعب اليهودي) مهمته تربية كوادر متحمسة لتدريبها جيداً ومن ثم إرسالها إلى الخارج لإقناع (يهود المهجر) للهجرة إلى إسرائيل وخاصة الشباب منهم.
ولاسيما أن السنوات الأخيرة شهدت تراجعاً حاداً في معدلات الهجرة اليهودية إلى إسرائيل مقابل تزايد الهجرة المعاكسة, فالهجرة إلى إسرائيل بلغت في هذا العام 19,700 ووسطياً 14 ألف مهاجر خلال السنوات الأخيرة مقابل معدل 7 إلى 8 آلاف إسرائيلي يغادرون إسرائيل سنوياً.
وما أقلق الوكالة اليهودية والذي لا يقل خطورة عن الظواهر المذكورة أعلاه, حسب رأي مسؤولي الوكالة, أن عدد اليهود في العالم يتناقص بسبب الزواج المختلط والذوبان في المجتمعات المحلية, وأظهرت الدراسات الميدانية لحالة اليهود في عدد من الدول الغربية والشرقية أن 70 بالمئة من اليهود الروس يذوبون في المجتمع الروسي و50 بالمئة في أميركا الشمالية و45 بالمئة في أوروبا الغربية.
والسبب الآخر الذي لا يقل أهمية عن تلك أن إسرائيل تعاني من حالة من التناقض الداخلي الحاد, الذي أخذ يتجلى باختلاف المفاهيم حول ماهية الدولة الإسرائيلية, وحول من هو اليهودي?
واجتياح الكيان سلاح التطرف الصهيوني والايديولوجي القائم على التوراة والتلمود وتعاليم الحاخامات, حيث اندمجت الهوية العرقية والدينية التي اعتمدت عليها الصهيونية في بناء الكيان الإسرائيلي.
والتناقض الآخر الذي أخذ ينخر الكيان, عدم القدرة على التوفيق بين الادعاء بإسرائيل الديمقراطية وإسرائيل المتطرفة عنصرياً ودينياً.
ومسألة الأمن التي يعتقد الكثيرون داخل الكيان أنه مهدد بشكل دائم بسبب سياستها القائمة على الفصل العنصري وسياسة الاستيطان وبناء المستوطنات التي تتناقض مع السلام الذي يمكن أن يوفر لإسرائيل الاستقرار والأمن, الذي يريده الإسرائيليون, رغم أن أغلبية اليهود ما زالت تعتبر نفسها صهيونية.
ولكنها تعتقد أن أسس الفكر الصهيوني قد تهاوى وانهار, ولاسيما أن الشرخ الاجتماعي بين اليهود أنفسهم, جعل من الايديولوجية الصهيونية غير ذات فعالية في إقناع اليهود بأنهم متساوون, خاصة أن الغالبية اليهودية نفسها تنزلق نحو مستنقع الفقر, بينما الثروة تتركز بيد نحو 10 بالمئة من السكان.
وتشير الاحصاءات الإسرائيلية نفسها إلى وجود أكثر من مليون يهودي يعيشون تحت خط الفقر, في ظل السياسة الاقتصادية الليبرالية المتوحشة التي تفتقد إلى أبسط العلاقات الإنسانية أو التكافل الاجتماعي.
فالتمايز الطبقي الحاد داخل إسرائيل نسف الخطاب الصهيوني التقليدي ومفهوم (الدولة اليهودية النقية على أرض إسرائيل), وربما لم يعد بالإمكان من حيث المبدأ تطبيق فكرة ترحيل عرب 48 من داخل فلسطين, وإحلال مئات آلاف المهاجرين اليهود أو من غير اليهود محلهم.
فتراجع الهجرة اليهودية وتزايد الهجرة المعاكسة اصطدم بوهم ما كانت تروج له إسرائىل دائماً بإقامة (إسرائىل الكبرى) اليهودية, فالتحولات الكبرى فرضت على إسرائيل الانفصال عن غزة, خاصة تحت ضربات المقاومة الفلسطينية البطلة التي أرهقت إسرائيل حكاماً وسكاناً.
ولعل ما يجري من تغيرات في العالم ونهوض حركات التحرر الوطني العالمية والعربية من جديد وصمود العديد من دول المنطقة في وجه المشروع الصهيوني وفي مقدمتها سورية العربية والتفاف الجماهير العربية حول سياسة الصمود الوطني وتراجع المشروع الأميركي في العراق والمنطقة عموماً, أخذ يسحب البساط من تحت أقدام ما تبقى من المشروع الصهيوني السيئ الذكر والصيت!!