وخضوع مساحة عربية جغرافية وسكانية لذات المنظور السلبي قبل هذه اللحظة كنا نفتش عن موقع محاصر أو مخترق وكانت الهمة العربية تستنفر ذاتها تمد يد العون تنتج فاعليات في كل قطر وتتشكل في المحصلة قوة ايجابية تمتد إلى الموقع المخترق وتمده بالدعم والسند بكل الوسائل المتاحة نتذكر على سبيل المثال الموقف العربي في العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956 نتذكر الوقفة العربية مع ثورة الجزائر نتذكر المجهود العربي مع اليمن الجنوبي
الآن انقلبت الصورة وانقلبت معها القيم فقد تكاثرت المواقع التي أصابها السقوط وتسلل اليها الاختراق وصرنا بالكاد نبحث عن موقع مضيء في الحياة العربية أو عن نقطة ضوء في الظلام العربي المستحكم والمستديم ولا اعتقد أن عنوانا يصلح أكثر من هذا التشخيص للحال العربي الراهن حتى لقد بدا أن من يصمد فهو مخالف لقانون السقوط ومن يتجذر فهو يبحث في المجهول عن المستحيل وأول التهم الموجهة اليه هي المغالاة أو التطرف أو الرومانسية السياسية في أحسن الأحوال وللمسألة شواهدها كما لها تداعياتها وأما الشواهد فهي سلسلة من المآزق والانتكاسات نراها بالمقام الأول عبر عنوانين كبيرين عنوان بحث العرب عن ذاتهم وعنوان آخر يتصل بقوانين الصراع العربي الصهيوني ولنلاحظ الآن إلى أي مدى تبدو فكرة الوحدة مطاردة ويبدو كل ما يبنى عليها أو يشتق منها محبطا حتى لقد صار ممنوعا من يفكر الآن بمسألة الوحدة العربية من يملك كما يقول البعض أن يجلب لنفسه تهمة العبثية وربما الجنون وهو مازال يعتنق فكرة الوحدة أو يبشر ببعض الانهيار كالتضامن العربي كالعمل العربي المشترك بل كالنشاط السياسي البروتوكولي الذي لا يقدم ولا يؤخر لقد نجحت السياسات العربية التكتيكية أرست قواعدها وانتخبت وقائعها وجذرت أمثلتها وصار من يحاول ارتياد البعد القومي يشعر أول ما يشعر بأنه لا ينتمي للواقع مادام الواقع لا ينتمي اليه.
ومثلما نجحت السياسات نجح السياسيون العرب وهم تشكيلة متنوعة من الأنظمة والأحزاب والنخب الفكرية والثقافية في أن يلبوا حاجات السياسات عبر التكييف العملي وإطلاق مهام هذا التكييف الواقع السياسي بما يشتمل عليه هذا الواقع ومن يشتمل عليه هذا الواقع ايضا, إن التحول الخطير انتجته هذه الثنائية ما بين السياسات الواقع أيضا إن التحول الخطير انتخبته هذه الثنائية ما بين السياسات والسياسيين قبل هذه المرحلة كان الوطن العربي يتعرض لسياسات مضادة وما انقطعت المشاريع الاستعمارية عنه من لا يذكر مبدأ أيزنهاور أو حلف المعاهدة المركزية ( السانيتو) وحلف بغداد أو الحلف الاسلامي أو مشاريع النقطة الرابعة لكن ذلك كان يتوقف عند محاولات تغلغل هذه المشاريع في الداخل العربي والسياسي والذي كان يورط نفسه بالوظيفة غير المقدسة للترويج لهذه المشاريع كان يتوارى من القوم من سوء ما يطرحه وما يسوقه في هذا القطر أو ذاك وكان كل سياسي متورط يصل إلى اللحظة الحرجة وحينما ينكشف أو يحاصر بفعل المد الجماهيري ونضال الطلائع القومية والاجتماعية يتحول مباشرة إلى إنسان وقد انقلب على كل ما تبناه وتنصل عن كل ما حمله من وظيفة في خدمة المشاريع الاستعمارية ولهذا المعنى فقد كانت مسألة الخروج على القيم والقواعد المستقرة والأسس المشتركة ودوافع الحركة والحراك هي بحد ذاتها أمر منكر محفوف بالخيانة العظمى وصاحب هذا الدور كان مطاردا يتوارى ويتمايل على ما اتخذه من آراء ومواقف وبرغم درجة الألم الحاصلة فقد كانت الظاهرة صحية في المحصلة وما كان يمر هو المستتر أو العابر أو المجزوء وثمة أجيال ربيت على قيم تلك المرحلة وشعاراتها وفي محاولة كنا نرى أن محاور الصراع هي بين الداخل العربي والخارج الامبريالي وما بين الذات القومية بكل تفاصيلها وأطياف الحضور فيها وبكل تنوعها ولربما بكل تناقضاتها مع المهام الاستعمارية المصدرة لنا لعل هذا المدى هو الذي أنتج تفاعلين مهمين الأول:
منهما نقل الناتج بالوعي إلى التجربة السياسية العملية والشواهد غنية لقد انتصرت مصر على فرنسا وبريطانيا و(إسرائيل) وأنجزت الوحدة بين مصر وسورية في عام 1958 وتحررت الجزائر وعمان ونجحت ثورة الفاتح في ليبيا, ولبنان الشقيق انتصر على العدوان الأميركي في عام 1958 وتحرر اليمن الجنوبي وحدثت ثورات مهمة موازية للثورة المصرية في عام 1952 ثورة في اليمن الشمالي ثورة شباط في العراق في عام 1963 وثورة آذار في سورية في العام ذاته والأمثلة أعلى من أن تحصى وهي تحمل في جوهرها هذا الوضع الطبقي المعافى والذي يؤكد أن العرب يدركون ما يراد لهم وهم قادرون على ردع الامتداد الأجنبي من جهة والانتقال بعد ذلك إلى الرد عليه بتطبيقات حيوية للغاية هل لعل الأهم فيها في القرن العشرين هو حرب تشرين التحريرية والتي توجت رحلة ومرحلة المد القومي ثم جرت كل المحاولات لإلقاء القبض عليها بقصد تفريغها من المضمون السياسي والاجتماعي و الوطني والقومي ومن ثم العمل على تبديد نتائجها بدءا من لحظة كامب ديفيد في عام .1978
ثم انتجت هذه المرحلة التفاعل الثاني والذي تمثل في صحوة العرب على ذاتهم بمعنى العودة من جديد وبعد عصور الانحطاط وإثر ظاهرة الاستعمار في الوطن العربي في المغرب وفي لحظة سايكس بيكو ووعد بلفور في المشرق العربي منذ تلك المفاصل والمراحل أدرك العرب أهمية إطار الذات القومية وبنية الذات القومية صحيح أن هذا المد كان يتسم بالشعبية والعاطفية لكنه تمكن من بناء الرسالة المشتركة في الداخل العربي وتوجيه رسالة واضحة للقوى الاستعمارية بأن العرب هم في مستوى المأساة وحجم ما يراد لهم ويدركون أن المدى القومي هو الاطار الخلاق والفاعل الذي يستوعب كل فصول المأساة والذي يتهيأ لدفع التحدي الخارجي بطريقة البناء القومي الداخلي إنما أردت من وراء هذا العرض أن أجري المقارنة والمقاربة بين لحظتين خطيرتين تلك التي ألمحنا اليها والثانية التي تطبق علينا في هذه المرحلة الآن بدا وكأن تحولا قريبا ثلاثيا صار مستاغاً افترس الحياة العربية.
أما التحول الأول فهو هذه النظرة الانقلابية للمشاريع الاجنبية الامبريالية صارت هذه المشاريع بأفكارها وبنيتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية هواية الكثيرين في استدعائها من الخارج إلى الداخل وغواية الكثيرين في تنظيم أنساق الترحيب بها وتأمين مستلزماتها في البشر والقوانين والنفط وإرادة الإنسان المغلوب على أمره والمطارد بأجهزة القمع ولقمة العيش حتى لقد صار الأجنبي هو الحاكم والحكم وهو المرغوب والمطلوب وهو المنقذ الذي لاسواه في دوامة السقوط السياسي العربي ومناخ الاقتتال العربي وأما التحول الثاني فقد استحوذت عليه شروط الواقع العربي الراهن في الانقلاب على معايير وحقائق الصراع العربي الصهيوني بل وصل الهوس ببعض العرب إلى استحداث صراع أرادوه جوهريا هو الصراع العربي الإيراني ومع ذلك نتذكر فكرة حيوية للغاية هي إن كل ما يجري في الداخل العربي إنما هو حالة انكشاف عن مرض مزمن وموعد استحقاق لتحولات آثمة مرفوضة لقد أرادنا الآخرون شجرة بلا جذر حتى إذا اطلقوا عليها ريح السموم اقتلعوها ومزقوها .
اليست هذه الفكرة المؤسسة الحيوية وذات الحياة التي اطلقها الرئيس بشار الأسد في قمة مؤتمر بيروت في عام 2002 ميلادي.