الفيلسوف الألماني هيغل, ولكن كمشعوذ أكثر منه كفيلسوف, فهؤلاء يتذكرون هيغل كما لو أنه استحضر الدولة من فانوسه السحري وأطلعها على هيئة مارد يأخذ بالتهام الفرد والأخلاق والدين والحرية والشعب, أما أولئك المناهضين لهذا الرجل, أي ايديولوجيي التقدم, فلطالما وصفوه بأنه رجعي, وأن نظريته في الدولة إنما هي تكريس لدولة الظلم والقهر والطغيان والاستبداد, إلا أن الطريف في الأمر أنهم على الرغم من وصفهم إياه بالرجعي, إلا أنهم أقروا له بأنه فيلسوف, وهكذا يكون هيغل مشعوذاً وفيلسوفاً ورجعياً من وجهة نظر الجميع, أما هيغل نفسه, هيغل الحقيقي, فقد ظل أسير سوء الفهم والتأويلات الخاطئة, هذه التأويلات التي سمح بها هو نفسه ربما, عندما كتب فلسفته بلغة لزجة بحيث لم يعد بالإمكان لأي أحد أن يتخلص من هذه اللزوجة ما إن يغمس أصابعه فيها.
هكذا هو الأمر إذن, فالعاملون في حقول الفلسفة, يتجاهلون, بل ينسون هيغل الذي كتب في مواضيع فلسفية متعددة, وكانت له الريادة فيها, فهو من مهد لفلسفة الطبيعة التي عرفت بالفلسفة الرومانتيكية, وهو الذي كتب في فلسفة الدين والجمال والتاريخ, ولم يبق في ذاكرتهم سوى صورة هيغل كفيلسوف للدولة, أما الإيديولوجيون التقدميون فقد قلصوا هيغل إلى أكثر من ذلك بكثير عندما لم يروا فيه أكثر من مبشر للدولة (البروسية), دولة عائلة غليوم المالكة, والمعتبرة آنذاك (دولة بوليسية) بجدارة, وهي نفسها الدولة التي ستغدو فيما بعد دولة الرايخ الثالث.
حتى الآن لم نتحدث سوى عن بعض الظلم الذي وقع على هيغل, وهو يبدو ظلماً مبرراً, فمن الطبيعي ألا يفهمه نقاد الفلسفة بسبب (فلسفته اللزجة), ومن الطبيعي أيضاً أن يقزمه خصومه السياسيين والأيديولوجيين, دعاة الحرية والتنوير, إلا أنهم سيشاركون بالظلم الأكبر الذي ستمارسه الدولة البروسية نفسها حيال هيغل, عندما ستعمل على تبرئة نفسها منه من خلال تصفية كل مناصرية وإبعادهم عن منابر وكراسي التدريس, ومن خلال استقدامها للفيلسوف العجوز (شيلينغ) لمحو وصمة العار الهيغيلية عنها.
من أجل رفع الظلم عن هيغل, يقدم (إريك وايلي) نفسه كمحامي الدفاع عنه ويزعم أنه في كتابه (هيغل والدولة) إنما يحاول إنصاف الرجل, وهو يبدأ بالتنويه إلى أن هيغل يمثل بحق (المتهم البريء) وأن الجرم الذي ارتكبه الفيلسوف (فيخته) والذي يعد فعلاً فيلسوف الدولة البروسية القائمة على الأنظمة والمحكومة من قبل سلطة مركزية, قد ألحق زوراً وبهتاناً بهيغل, ويبين أن هيغل كان قد سخر من دولة فريدريك غليوم الأوتوقراطية ومن دولة ما بعد فريدريك, هذا من الجانب العملي, أما من الجانب الفلسفي فإن إريك وايلي يرى أنه للدفاع عن هيغل يجب العودة إلى النصوص الهيغيلية التي عانت من سوء الفهم تارة ومن الأدلجة تارة أخرى, واللذين تسربا إلى تلك النصوص بسبب هيغل نفسه, وتحديداً من العبارة الشهيرة التي أطلقها في مقدمة كتابه (فلسفة الحق) والتي تقول: (كل ما هو معقول حقيقي, وكل حقيقي معقول), إذ بهذا الشكل يكون هيغل قد كشف ظهره لكل من أراد الطعن من الخلف, خبثاً أو جهلاً, إلا أن نصيب الجهلاء أكبر, فعلى ما يبدو أن فهم هذه العبارة في فلسفة الحق يحتاج إلى كتاب هيغل في المنطق الذي يشرحها جيداً بحيث يختفي هيغل المشعوذ والرجعي ولا يبقى سوى هيغل فيلسوف الدولة الحديثة بإطلاق هذه الدولة التي رافق وجودها كل مراحل التاريخ, والتي تأتي كحقيقة واقعية للفكرة الأخلاقية والدين الحقيقي والحرية الحقة, وتالياً فهي لم تكن أبداً -أي الدولة- عملاً فنياً ولا مارداً تم إخراجه من القمقم.
الكتاب: هيغل والدولة, المؤلف إريك وايلي, ت: نخلة فريفر - بيروت - دار التنوير - .2007