تظن انك في السفر تنسى, لكن الغربة تعزز في قلبك الحنين الى المنازل الاولى,الى ا لحبيب الاول, والذكرى الاولى, وكلما ازددت غربة ازددت شوقاً للايام الآفلة.. تشتاق في الشباب الى الطفولة, وتشتاق في الكهولة الى الشباب.. وعندما تصبح شيخا هرما تشتاق يوم كنت كهلا, تقرأ وترى جيداً حروف الكتابة, تسمع الموسيقا والغناء وتطرب, وترقص احياناً.. لكنك في الشيخوخة تفقد كل هذه اللذات.. وتفقد طعم الحياة الجميل. ويصبح الانتظار الممض قاسيا, لان كل لحظة هي انذار النهاية تقرع في الصدر كالاجراس, وربما, تتلفت في هذه المرحلة من العمر, فتجد اقرب الاقرباء.. الابناء.. والبنات, ضاقوا ذرعاً بك و بقلة سمعك..وبرجفان يديك عندما تمسك بفنجان القهوة, او فنجان الشاي فتدلقه على ملابسك, انها مرحلة ارذل العمر.. حمانا الله منها.
وان كان علي ان اتذكر وانا احمل حقيبتي على ظهري مودعاً أمي, كيف دلقت ورائي سطلاً من الماء, على اساس ماآمنت به من خرافات ان مثل هذا التصرف يعيد المسافرالى بيته سريعا.. ولكني لم اعد الا يوم موتها لالقي عليها نظرة الوداع الاخيرة, وفي لحظة ما وانا اتلمس وجهها , قبل ان يغلقوا على هذا الوجه الكامد في موته, كأنها فتحت عينيها ترمقني تلك النظرة العاتبة المؤلمة والمونبة على هذا الفراق الطويل.
ولعلني اذكر ايضا وداع الحبيبة الاولى, والتي لم تسمح لي ظروفي المادية ان اطلب يدها, فاضطرت ان تقبل الخطوبة والزواج من طبيب ميسور ذهبت اليه وقلبها معي.
التقينا في شارع جانبي وامسكنا بأيدي بعضنا البعض دموعها تنفر كالنبع, وانا اتماسك وراء دموعي.
قالت: سأحبك مادمت حية
قلت: لن انساك ابداً
وافترقنا.. ماان وصلت الى نهاية الشارع, ووصلت هي الى نهاية الطريق المعاكس حتى التفت كل منا نحو الاخر.. فهرولنا لنلتقي من جديد..
قالت لا أستطيع فراقك.. قلت لها: وانا ايضا.. ثم تعانقنا وافترقنا من جديد مرة اخرى حصل ماجرى في المرة الاولى.. وبقينا اكثر من ساعة نفترق ثم نعود ونلتقي.. واخيراً كان لابد لي من ان انحرف الى شارع اخر لمجرد ان ودعتني ومضت.
الفراق صعب, والوداع اصعب, والغربة بينهما اكثر صعوبة, ان لم أقل اكثر مأساة.
وشدني هذا الموضوع الى تراثنا العربي المليء بالحنين الى المنازل, والمليء بالسفر والوداعات .. وانا من الذين ظل ابي رحمه الله يمنعني من السفر, مع انني كنت اسعى في سفري لايجاد فرصة حياة افضل فتذكرت رجلاً من البادية يريد السفر بعيداً فمنعه والده وحاول تكرارا ان يثنيه عن عزمه فأنشد:
ألا خلني امضي لشأني ولا اكن
على الاهل كلا ان ذا لشديد
تهيبني ريب المنون ولم اكن
لأهرب عما ليس منه محيد
فلو كنت ذا مال لقرب مجلسي
وقيل اذا اخطأت انت رشيد
فدعني اجول الارض عمري لعله
يسر صديق او يغاظ حسود
وفي بعض الكتب السماوية: ان مما عاقبت به عبادي ان ابتليتهم بفراق الاحبة.
ومما جاء في الحنين الى الوطن: اما محبة الوطن فمستولية على الطباع, مستدعية اشد الشوق اليها.
وروي ان أبان قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ياأبان كيف تركت مكة?
قال: تركت الاذخر وقد اغدق, والنمام (الاذخر والنمام نبت قوي الرائحة) وقد اورق فاغرورقت عينا الرسول صلى الله عليه وسلم وقال بلال رضي الله عنه :
الا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بواد وحولي اذخر وجليل
وهل اردن يوماً مياه مجفة
وهل يبدون لي شامة وطفيل
وحكي ان يوسف النبي عليه السلام اوصى ان يحمل نعشه الى مقابل ابائه, فمنع اهل مصر اولياءه من ذلك, فلما بعث موسى عليه السلام واهلك الله فرعون حمله موسى الى مقابر ابائه فدفنه في الارض المقدسة , واوصى الاسكندر ان تحمل رمته في تابوت من ذهب الى بلاد الروم حباً بوطنه.. واعتل سابور ذو الاكتاف رحمه الله وكان اسيراً في بلاد الروم, فقالت له بنت الملك وكانت ان عشقته: ماتشتهي?! قال:شربة من ماء دجلة, وشمة من تراب اصطخر, فأتته بعد ايام بشربة من ماء وقبضة من تراب, وقالت له: هذا من ماء دجلة ومن تربة ارضك, فشرب, واشتم بالوهم فنفعه من علته.
قال الجاحظ: كان نفر من زمن البرامكة اذا سافر احدهم اخذ معه تربة ارضه في جراب يتداوى به, وما احسن ماقال بعضهم:
بلاد ألفناها على كل حالة
وقد يؤلف الشيء الذي ليس بالحسن
ونستعذب الارض التي لاهواء بها
ولا ماؤها عذب ولكنها الوطن
ووصف بعضهم بلاد الهند فقال: بحرها در, وجبالها ياقوت, وشجرها عود, وورقها عطر
وقال عبد الله بن سليمان في نهاوند: ارضها مسك, وترابها الزعفران, وثمارها الفاكهة, وحيطانها الشهد.
وقال الحجاج لعامله في اصبهان: قد وليتك على بلدة حجرها كالكحل, وذبابها النحل و حشيشها الزعفران, وكان يقال: البصرة خزانة العرب, وقبة الاسلام, ذلك لانتقال قبائل العرب اليها واتخاذ المسلمين بها وطناً ومركزاً.
وكان ابو اسحاق يقول: دمشق حاضرة الدنيا وماسواها بادية.. وقال عمرو بن العاص: مصر كنانة الله في ارضه.
وفي الوداعات والتوديع ورفع اليد تلوح بالفراق, قال شاعر:
رجوت طيف خياله وكيف لي بهجوع
والذاريات جفوني والمرسلات دموعي
وقال ابن الوردي:
دهرنا اضحى ضنينا باللقا حتى ضنينا
ياليالي الوصل عودي اجمعينا .. اجمعينا
وقال الشريف الرضي:
عللاني بذكرهم واسقياني
وامزجاني دمعي بكأس دهاق
وخذا النوم من جفوني فإني
قد خلعت الكرى على العشاق
وقال اخر:
ياراحلاً وجميل الصبر يتبعه
هل من سبيل الى لقياك يتفق
ماأنصفتك دموعي وهي دامية
ولا وفي قلبي وهو يحترق
وقال شاعر:
مددت الى التوديع كفا ضعيفة
واخرى على الرمضاء فوق فؤادي
فلا كان هذا آخر العهد منكمو
ولا كان ذا التوديع آخر زاري
وفي وداع الحبيب قال الشاعر:
ولما وقفنا للوداع عشية
وطرفي وقلبي دامع وخفوق
بكيت فأضحكت الوشاة شماتة
كأني سحاب والوشاة بروق
وقال ابن البديري:
تذكرت ليلى حين شط مزارها
وعادت منازلها خليات بلقع
بكيت عليها والقنا يقرع القنا
وسحر العوالي للمنايا تشرع
ولم استطع يوم النوى رد عبرة
فؤادي اسى من حرها بتقطع
لئن كان هذا الدمع يجري صبابة
على غير ليلى فهو دمع مضيع
وقال الصفي الحلي:
تنقل فلذات الهوى في التنقل
ورد كل صاف لاتقف عند منهل
ففي الارض أحباب وفيها منازل
فلا تبك ذكرى حبيب ومنزل
ولاتستمع قول امرىء القيس انه
مضل ومن ذا يهتدي بمضلل
ومما قيل في الوداع والفراق والشوق والبكاء قال جرير:
لو كنت اعلم ان اخر عهدكم
يوم الرحيل فعلت ما لم أفعل
وقيل لعمارة بن عقيل بن بلال بن جرير: ماكان جدك صانعاً في قوله فعلت ما لم أفعل? قال كان يقلع عينه حتى لايرى ظعن احبابه ثم انشد يقول:
وما وجد مغلول بصنعاء موثق
بساقية من ماء الحديد كبول
قليل الموالي مسلم بجزيرة
له بعد نومات العيون أليل
يقول له الحداد انت معذب
غداة غد او مسلم فقتيل
باكبر مني لوعة يوم راعني
فراق حبيب ما اليه سبيل
هكذا كان الاسى في الرحيل والوداعات وألم الفراق, حتى صاح المطرب الراحل عبد الحليم حافظ:
سافر من غير وداع