فملكتني عادة التواطؤ معه والاسترسال في الضحك، بدرجة قد يظنّ فيها من يقع نظره عليّ أنني مصابة بمسّ في رأسي. سنحاول إذن ان نتعرّف على هذا المسمّى، وننظر في تسمية تليق به.
الجمع صورة معروفة، وإنْ لم تكن شائعة الصيت، وتُسقَط من كتب البلاغة في كثير من الأحيان. يُدرجها القزويني في باب صور البديع، معرّفا إياها بقوله: "الجمع هو أن يُجمع بين متعدد في حكم كقوله تعالى: المال والبنون زينة الحياة الدنيا". كتب البلاغة التي تلتفت الى الجمع تأتي بالتعريف ذاته, وبالمثل ذاته؛ وقد تضيف آخر، غالبا ما يكون منقولا بدوره عن القزويني، مثل هذا البيت لأبي العتاهية: "آراؤه وعطياه ونعمته \ وعفوه رحمة للناس كلهم".
قواسم مشتركة تجمع بين المثلين السابقين اللذين يختصران معظم حالات الجمع الواردة في كتب البلاغة. المتعدد الذي يُجمع بينه في حكم واحد يُعبَّر عنه بأسماء معطوفة، تحتلّ موقع المسند إليه، موقع المبتدأ او ما هو في مكانته. إضافة الى هذه الخصائص النحوية، تشترك الأسماء المعطوفة بقاسم أساسي من حيث المعنى او الدلالة: إنها لا تعبّر عن معانٍ يصعب الجمع بينها، او يلغي أحدها الآخر؛ إنما تتضافر على خلق الحكم المطلق عليها، بدرجة أن غياب أحدها يضعف الحكم او يؤدي الى خلل ما. وهذا ما لا نجده في غيرها من حالات الجمع.
حالات متفرّقة
لا بدَّ من الانطلاق من بعض الأمثلة، وقد أُخذت تباعا من "عزازيل" ليوسف زيدان: الأمثال الثلاثة الأولى، "المترجم الخائن" لفواز حداد: المثل الرابع، الجزء الأول من "البحث عن الزمن المفقود" لمرسيل بروست: المثل الخامس، و"مدام بوفاري" لفلوبير: الأمثال الثلاثة الأخيرة.
«61» فلم أتناول "..." الاّ البلح الجاف والماء ورحيق صلواتي.
«62» الجماعة "..." كانوا عشرة رجال وسبعة بغال وثلاثة خراف وامرأتين.
«86» وتذكرت ساعتها بلادي الأولى حيث الكلاب هناك بائسة..والإنسان!
«245» "..." ما دامت تقدم لهم كل ما يحتاجون اليه من عمل وكرامة وأوقات فراغ وبذور وجرارات ودبكة وهتافات؟
«74» كان الكل في كومبريه يعرف الجميع: حيوانات وناسا.
«23» لقد وجدتْ له إحداهنّ! كانت ارملة "..." تبلغ من العمر خمسا وأربعين سنة، ومن الدخل الفين ومئتي ليرة.
«29» وكانت تنهي عتابها وهي تطلب منه شرابا لعلاجها ومزيدا من الحب.
«142» كان خبيرا محنكا في أمور النساء. هذه، بدت له جميلة؛ فراح يحلم بها، وبزوجها.
الأمثلة الثمانية السابقة تلتقي مع حالات الجمع البلاغي في أمر، وتختلف في اثنين. كل منها يأتي بمتعدد، عُبّر عنه بأسماء معطوفة. غير أن المتعدد لا يحتّل موقع المسند اليه، في معظم الأحيان، كما أنه، باستثناء «61»، يفيد معان غير متجانسة، او لا يمكن تجانسها، يصعب الجمع بينها في حكم واحد، او أن أحدها يحدث أقلّه خللا ما في هذا الحكم.
إذا نظرنا الى «61» الذي لا يختلف عن حالات الجمع الواردة في كتب البلاغة الاّ في كون المتعدد يأتي في موقع المفعول به، وليس في موقع المبتدأ، فهل نعتبر قطعا أن «61» لا يحقق الجمع البلاغي؟ اللسانيات، التوليدية بالدرجة الأولى، وقبلها النحويّون العرب يتكلمون على الاستنباط والتأويل والتقدير. فيمكننا أن نولّد من «61» صيغة نحوية تتطابق كلّيا مع الجمع البلاغي، فنقول: "البلح الجاف والماء ورحيق صلواتي كانت وحدها طعامي". على كل، أكان الاستنباط صوابيا أم لا، يبقى هناك متعدد جُمع بينه في حكم واحد، وإن لم يكن الحكمُ مركزيا في الجملة، واحتلّ مكانة ثانوية. سنضع اذن جانبا هذا الإشكال النحوي، اذا كان حقا إشكالا، وننظر في الوظيفة التي يقوم بها الجمع بين عناصر يصعب تجانسها، وذلك بمعزل عن موقعه النحوي، وانطلاقا من الأمثلة الواردة أعلاه، باستثناء «61».
نلاحظ أن الافتقار الى إمكانية التجانس الدلالي او المعنوي بين العناصر المعطوف بعضها على بعض ليس واحدا. فهو يتراوح بين درجة قصوى صاخبة، كما في «245»، حيث جُمع بين أمور لا يمكن الربط بينها في شكل من الأشكال، مثل العمل والكرامة من جهة، والدبكة والهتافات من جهة ثانية؛ وبين درجة يمكن وصفها بالخفيّة، كما هو بيّن في «142». ففي هذا المثل الأخير من فلوبير، يخبرنا الكاتب أن غاوي النساء رودولف صمم على الإيقاع بإيمّا بوفاري. ونسمعه ينهي كلامه بقوله: "فراح يحلم بها، وبزوجها". فهذا القول يجمع بين إيمّا وبين زوجها في حكم واحد: الأثنان هما موضوع حلم رودولف. صحيح أن التجانس الدلالي متوفّر الى أقصى الحدود بين المتعدد الذي جُمع بينه، الاّ أن هذا الجمع ليس سويّا. فرودولف يحلم بإيمّا لكي تكون عشيقته، ويفكر بزوجها لكي يبعده عن طريقه. إيمّا وحدها هي موضوع حلم رودولف. أما زوجها فهو موضوع غرض آخر. كان باستطاعة فلوبير أن يقول: "فراح يحلم بها. فكر بأمر زوجها". إنما جمع بين الأثنين في حكم المفعول المتعلق بفعل حلم، غامزا الى نوايا رودولف وساخرا منها. وإننا نلمس هذه الإيماءة الساخرة من علامات التنصيص ايضا: لقد فُصل بين المعطوفين المجموع بينهما بفاصلة.
عدم التكافؤ بين المتعدد الذي يُجمع بينه في حكم واحد يحدث خللا في الحكم ويبرز، بالفعل ذاته، تمايزا، قد يؤدي احيانا الى الغاء أحد عناصر المتعدد. أمر معمول به ببراعة في حالات الجمع المأخوذة من فلوبير. فعندما نرى، على سبيل المثال، امرأة شارل بوفاري الأولى تطلب منه شرابا لعلاجها ومزيدا من الحب في «29»، ندرك جيدا أن هذا الأخير هو المطلوب وليس الأول. وهذا الخلل يولّد حتما الدعابة والسخرية، او أثرا سلبيا ما، حتى وإنْ لم يكن ايّ من المسبِب والمسبَب مقصودا، كما هي حال «62» و»86» في "عزازيل". فعلى شاعرية اللغة وجمالها في هذه الرواية – «61» مثال بسيط على ذلك-، وعلى طابعها الجدي والبعيد عن كل دعابة، فإن المزج بين الإنسان والحيوانات في «62» يحمل على شيء من الضحك، ويبوح بنظرة تحقيريّة الى الجماعة المعنية بهذا المزج. كما أن الرثاء لبؤس الكلاب في «86»، ومن ثم إلحاق الإنسان بها، ينمّ عن خلل متعدد الأبعاد، يضعف، في ما يطاله، من زخم قضية الرواية الأولى.
وقد يؤدي المزج أحيانا الى نسف الحكم نسفا كاملا، كما هو ملاحظ في «245» و «74». ففي هذا الأخير، ينفي مرسيل بروست المعرفة التي نسبها الى أهالي كومبريه، ويغمز بسخرية ودعابة الى فضولهم.
أشياء كثيرة يمكن التنويه بها، أكان ذلك بالنسبة الى آلية الجمع ذاتها، او بالنسبة الى مستويات البناء التي تطالها، والتي لا تقتصر قطعا على أركان جملة بعينها. كما أنه لم يتح لنا النظر في صوابية التسمية. المهم أننا حاولنا لفت الانتباه الى آلية الجمع هذه والى مكانتها في لغة السخرية.