بالتالي يكون التعبير الأدبي عامة والشعر خاصة عن هذه المعاناة الفكرية والشعورية يتلاءم مع هذه المعاناة، فكان ما يسمى بشعر ــ التفعيلة ــ والأنواع الجديدة لمعمارية القصيدة الحديثة الهرمي منها والذهني والدائري، ومن ثم القصيدة المدورة وغير ذلك من أشكال ولدت في عمق العصر الجديد. وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال: ألا يمكن أن تكون القصيدة العربية بنمطها العمودي المعروف، حديثه ومعاصرة أيضاً وقادرة فنياً على استيعاب هذا العصر الجديد..؟
يقول ت.س إليوت: الشعر ليس حراً لمن يريد أن يعمل شيئاً جيداً..
فالقضية إذاً تعود إلى قدرة الشاعر ومدى فهمه للحداثة ومدى اندماجه بالعصر ومدى وعيه الحضاري، إذا وجد شاعر يمتلك خصائص شاعر كبير، طوَّع ما هو راهن ويومي وعصري وجديد وفي نفس الوقت امتلك أدواته الفنية باقتدار وشكَّلها ضمن هذا التطويع فأوجد قصيدة حضارية جديدة لها امتدادات رائعة أول هذه الامتدادات ديمومة الشكل العربي للقصيدة التي هي نتاج قرون من العطاء والإبداع في التراث وثانيها: عدم الاستهانة بالذاكرة الشعبية والذوق الفني التي اعتادت على نمط من الشعر نعتز به كونه ينتسب إلى أرقى ما توصل إليه الذوق العربي على مر العصور وهذه الذاكرة الشعبية ما زالت تجد في أشعار زهير بن أبي سلمى وعنترة وكعب بن مالك والنابغة الجعدي والمتنبي وأبي فراس الحمداني كما تجد في شعر العذريين والصعاليك وغيرهم، المثال الجميل والحكمة البليغة والإطراب المموسق.
أجد أن الشاعر المبدع هو الذي يحقق في قصيدته هذين الامتدادين، إضافة إلى التواصل مع ما هو آني ويومي ومستجد وما هو على تماس مباشر مع معطيات فنية وحضارية جديدة ويجعل من كل ذلك آفاقاً إنسانية.. وفي شعرنا المعاصر كما في شعرنا القديم أمثلة من هذا النوع من القصيدة المعافاة الجديدة تبهر الحداثيين والتقليديين على حد سواء كما تمد جسوراً قوية وجميلة مع الناس في وقت عزف الناس عن الشعر..
وسوف يقع القارئ على مثل هذه النماذج من بين ركام الشعر بغض النظر عن عقدة الجيل وبعيداً عن الحكم الجاهز تجاه الأسماء سواء كانت من اللامعة جداً أو المغمورة.
إن ربط عجلة الحداثة والتحديث ومنذ عدة عقود الزمن بنمط واحد من الشعر قد اضر بالشعر أولاً كما أضر بالنقد الأدبي وتنكّب به عن جادة الصواب.. فهل صحيح انتهت القصيدة العمودية وولى زمنها وانقرضت مثل ديناصور قديم ــ كما نسمع ونقرأ بين آونة وأخرى..؟
والشكل العربي المعهود للقصيدة قابل أن يتنفس في فضائه الياسمين والورد الجوري والخزامى والشيح فالقضية قضية شاعر مقتدر يخاطب الناس من خلال هذه القصيدة شعورياً فيجمع إلى إنجازات الشعر إنجازات جديدة وإن جاء من يقول: إن قصيدة التفعيلة جاءت بديلاً عن القصيدة العمودية فقد جاء من يقول: إن قصيدة النثر هي البديل عن قصيدة التفعيلة وأتوقع أن يزعم آخر: أن بياض الصفحة هو البديل عن قصيدة النثر وهكذا.؟
وإن نجاح بعض القصائد العمودية على يد بعض شعراء كبار أفادوا من معطيات الحداثة هذه لا يقلل من قيمة الشعر الحر ــ التفعيلة ــ سواء في شعر روّاده أو في شعر الجيل الذي تلاه أو الذي تبعه بل أجد أن ترادف هذين النوعين يُغني الشعر ويدفع به إلى الأمام..