فهو ابن صعيد مصر «الجنوب»، وهو المنتمي إلى «الجنوب»؛ حيث المعاناة الإنسانيَّة القاسية، وتمثُّلها تجربة شاعر «لا يملك ما يكفي من الصَّبر ليكتب روايةً»، وتمثيلها لغة شعريَّة متميِّزة، وقد بلغ من هذا الأمر شأناً جعل الكثيرين من قرَّاء شعره يتحدَّثون عنه بوصفه «صاحب أحلام العروبة والثَّورة»، وأتاح له أن يمثِّل محطَّة مهمَّة في تاريخ الشِّعر العربي الحديث، قد يكون من أبرز مزاياها صدور شعره عن قضايا المجتمع، وهموم النَّاس، العاديين اليوميَّة والقوميَّة والإنسانيَّة.
وقد تميَّز هذا الشِّعر بأنَّه لم يكن ذاتيَّاً رومنطيقيَّاً حالماً، ولا موضوعيَّاً ذهنيَّاً، وإنَّما كان وليد تجربة شعريَّة. لشاعرٍ موهوب ومثقَّف وممتلك خبرة واسعة وعميقة بهموم العيش، فامتزجت ذاته المتوهِّج وعيها إبَّان لحظة الإبداع، بهذه القضايا/الهموم، ما ولَّد رؤية متميِّزة تجسَّدت لغة شعريَّة جديدة، لعلَّ أبرز ما يميِّزها المعجم اللغوي الدَّقيق، المأخوذ من لغة الحياة اليوميَّة، ومتانة تركيب العبارة وبساطته وسهولته في آن، وفرادة الصورة الشِّعريَّة، والحسِّ الدرامي، وتعدُّد الأصوات، وتنوُّع الإيقاع، وتوظيف التقنيات الروائيَّة والمسرحيَّة، والرموز التاريخية، وبخاصَّة المأخوذة من التراث العربي، علاوة على الرموز المأخوذة من الترُّاث الثوري العالمي، والعناية بالتفاصيل الدَّالَّة على القضايا الكبرى.
إنَّ هذه المزايا جعلت قصيدة أمل دنقل حاضرة وفاعلة، ليس في زمن صدورها فحسب، وإنَّما في الأزمنة التالية، إذ إنَّها لا تزال تزداد إشراقاً، علاوة على أنَّ صاحبها أستاذ لعددٍ من الشُّعراء، فإن يكن كثير ممَّا قاله سياسي، فإنَّه كان، في القول الرائي إلى الحدث السياسي، ينفذ إلى جوهره، ويرقى به إلى مستوى الحدث التاريخي القومي والإنساني، النَّاطق برؤية تكشف فظاعة الطُّغيان والاستبداد والقهر والصلح مع إسرائيل، وتدعو إلى الحريَّة والتحرُّر وإتاحة الفرص للإنسان ليحقِّق ذاته، يقول: «الفنُّ والشِّعر هما أساساً نتيجة لحلم الإنسان بعالم أفضل... حلمي أن أرى النَّاس أحراراً وغير مقيَّدين بقيود العجز... أحلم بأن يكونوا ما يريدونه...». وإذ يُعطى «أوتوغرافاً» ليكتب فيه، يقول: «لن أكتب حرفاً فيه/فالكلمة – إن تكتب – لا تكتب/من أجل الترفيه».
ولكن هل يتحقَّق حلم الإنسان هذا؟
يعود أمل إلى التاريخ القديم، وفي آونة مبكِّرة منه، فيسمع كلمات «سبارتكوس الأخيرة» «عام 1962»: «معلَّقٌ أنا على مشانق الصَّباح/وجبهتي بالموت محنيَّة/لأنَّني لم أحنها... حيَّة/لأنَّ من يقول: لا/لا يرتوي من الدموع.../فخلف كل قيصر يموت: قيصر جديد/وخلف كل ثائر يموت: أحزان بلا جدوى/ودمعة سدى».
ويقرأ من التاريخ العربي: «والأموي يقعى في طريق النَّبع/.. دون الماء رأسك، يا حسين». ويقرأ في التَّاريخ المعاصر: «أوجيني لاهبة الإحساس/وأفندينا يطرق أبواب الإفلاس/والجوع على الأفواه نعاس.../أوجيني عادت/تحمل في خدَّيها وخز اللحية/والَّليلُ على كفَّيها... ماس». «وكان الذُّل في الشَّعب ضريبة/وابتسام الصَّبر قد صار ذنوبه».
وإذ يغنِّي يرى الولد والبنت ماشيين تحت الشَّجر، في فضاء الحلم: «... وشبكة أيدين ونظرة/وخطوة على القمر/ووردة في غصن بكره/مشتاقة للمطر...». لكنَّ المطر لا يأتي، وتضيق الطَّريق «على الحلم البريء»، ولا يبقى «غير اسمين على الشَّجر/ودمعتين عقيق».
يقرأ في التَّاريخ الإنساني، القديم والحديث ويرى إليه، وتنفذ رؤيته إلى جوهر الأحداث، وتتمثَّل لغة شعريَّة جديدة. ومن نماذج هذه الُّلغة، كما قرأنا، الذُّل/الضريبة، ابتسام الصَّبر/الذنوب، الحلم/وردة في غصن بكره، الجوع.../نعاس؛ الَّليل.../ماس...
ويبدو بدهيَّاً أن تكون قضيَّة فلسطين هي القضيَّة المركزيَّة في مواقف أمل وشعره، فقد كان مسكوناً بها، منذ تفتَّح وعيه على الهمِّ القومي. فمن المعروف أنَّه استشرف حدوث هزيمة الـ67 عندما نشر قصيدته «الأرض والجرح الذي لا ينفتح»، عام 1966، ووظَّف فيها شخصيَّات من التُّراث العربي: الحسين والحجَّاج وعبد الله بن سلول والبرامكة... ثمَّ بعد حدوث الهزيمة، بأيَّام «13/6/1967» كتب قصيدته الشهيرة «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة»، التي كشف فيها، بجرأة فائقة، وبلغته الشِّعريَّة المتميِّزة العوامل السياسيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة للهزيمة.
تعود أهميَّة هذه القصيدة ليس إلى أهميَّة موضوعها وجرأة صاحبها فحسب، وإنَّما أيضاً إلى الرؤية النافذة إلى حقائق الواقع المتمثِّلة في بناء شعري فريد، وظَّف فيه شخصيَّات تاريخيَّة من التراث العربي توظيفاً ناجحاً، ومنها: عنترة بن شدَّاد، الرَّمز التاريخي الدَّال على الفروسيَّة العربيَّة وقيمها: قوَّة، شجاعة، مُثل عليا...، فقد عُطِّلت هذه القوَّة...، التي ترمز إلى الشَّعب العربي، وظلَّ عنترة عبداً يحرس قطعان السلطان. يقول: «وظللت، في عبيد عبسٍ، أحرس القطعان...»، ومنها الرَّمز التَّاريخي الآخر: «زرقاء اليمامة» التي كانت ترى على مسيرة ثلاثة أيَّام، وهي ترمز إلى قوَّة أخرى عُطِّلت، هي قوَّة المعرفة، معرفة حقائق الواقع، وما تؤول إليه الأمور، ومعرفة المستقبل الآتي، وما ينبغي أن يُفعل... هذه القوَّة عُطِّلت كذلك، وطُورد ممثلوها ونكِّل بهم وسُجنوا... وإذ تمَّ تعطيل هاتين القوَّتين، كان العجز والفَقْد، فبمَ تخاضُ الحرب؟
يقول: «... وحين فوجئوا بحدِّ السيف: قايضوا بنا/ والتمسوا النجاة والفرار.../وها أنتِ يا زرقاء/وحيدة عمياء/وما تزال أغنيات الحبِّ... والأضواء/والعربات الفارهات والأزياء!».
ويعيد القول موظِّفاً رؤية المتنبِّي: «نامت نواطير مصر عن عساكرها/وحاربت بدلاً منها الأناشيد».
كان أمل يقول هذا، في حين كان مثقَّفون آخرون ينشدون عن «سيف السُّلطان الشُّجاع»، و»سيفُه في غمده يأكله الصَّدأ». لكن شعراء آخرين تأثَّروا بقصيدة زرقاء اليمامة، فأخذت تصدر قصائد، مثل «هوامش على دفتر النكسة» لنزار قبَّاني و»سقوط دبشليم» لمحمَّد الفيتوري.
وكان أمل يوظِّف الرُّموز التراثيَّة العربيه في حين كان شعراء آخرون يوظِّفون رموز أساطير الإغريق والرُّومان.
وإذ يعطِّلُ صاحب السُّلطان القوى الفاعلة، يأكل الصَّدأ سيفه المركون في غمده، ويميل عند الصِّدام»، ويصيح: «ما بنا طاقة على امتشاق الحسام»، ويمضي إلى الصُّلح...، فيعلو صوت الشَّاعر: «لا تصالح، وينشد قصيدته الشَّهيرة: «لا تصالح»، ويكون أبرز المثَّقفين الذين عارضوا اتفاقيَّة السَّلام المصريَّة مع إسرائيل، وأعلاهم صوتاً، ولعلَّه من القلَّة الذين جسَّدوا رؤيتهم السياسيَّة الرَّافضة، جماليَّاً، فخلَّدوها، وجعلوها نشيداً للجبهة التي لا تنحني وهي حيَّة.
ويعود، في هذه القصيدة، إلى التاريخ العربي، إلى حرب البسوس، ويوظِّف شخصيَّة «كُليب» رمزاً للأرض العربيَّة المغتصبة، ويتحوَّل بالثَّأر الفردي إلى الحقِّ القومي التَّاريخي، وهو حقٌّ طبيعي، يتمثَّل في حقِّ الإنسان بوطن، وبيت...، وحقُّ «اليمامة» بِـ»عشٍّ». وهنا يبرز توظيف الرَّمز، فاليمامة هي ابنة كُليب، واليمامة هي الطَّائر الوديع، رمز السَّلام، وكلاهما، تصرخ: «لا تصالح». جاء في القصيدة: «... لا تصالح!/فما ذنب تلك اليمامة/لترى العشَّ محترقاً... فجأة/وهي تجلس فوق الرَّماد!؟»، وهذه صورة مبتكرة تجسِّد ما حدث. ويتساءل الشَّاعر: كيف يمكن أن تصالح «والذي اغتالني محض لصٍّ/سرق الأرض من بين عيني/والصَّمت يطلق ضحكته السَّاخرة...!؟». ويؤكِّد أنَّ الحلَّ هو التَّحرير، ويخاطب فارسه: «أنت فارس هذا الزَّمان الوحيد/وسواك... المسوخ».
أنشد أمل قصائده، وبقي ينشد...، وحين بدأت سياسة الانفتاح، وتصاعدت معركة الدولة مع المثقَّفين، رحل مثقَّفون كثيرون، وانحنى كثيرون، لكنَّه رحل، ولم ينحن، وقال قلبه له: «لا للسَّفينة/وأحبُّ الوطن»، وبقي. لكنَّه، عوقب، فعندما توفي لم يكن قد أصدر أيَّاً من دواوينه في مصر، إذ صدرت دواوينه جميعها في بيروت، وهي: «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة «1969»، «تعليق على ما حدث» «1971»، و»مقتل القمر» «1974»، و»العهد الآتي» «1975». وبعد رحيله، صدر ديواناه في مصر، وهما: «أوراق الغرفة 8»، و»أقوال جديدة عن حرب البسوس». ثمَّ صدرت أعماله كاملة في طبعتين. كما كانت الدِّراسات عنه قليلة، وهاجمه بعضهم. وممَّا قيل فيه: «آخر الشُّعراء الجاهليين»، وقال وزير الثقافة آنذاك، عبد الحميد رضوان، عندما ناشد يوسف إدريس الدولة للتدخُّل لإنقاذ حياة شاعر التمرُّد، المريض بالسرطان: «من يكون أمل دنقل!؟».
إنَّنا، اليوم، نسأل: من يذكر اسم ذلك الوزير لولا الحديث عن موقفه من الشَّاعر الكبير!؟
واللافت، أنَّ مكتبة الإسكندرية احتفلت، في 10/1/2010، بذكرى ميلاده السبعين، قبل موعدها الفعلي بأشهر، وأعدَّت برنامجاً حافلاً لذلك، واضطر الحضور الجماهيري المنظِّمين لنقل جلسة الافتتاح إلى القاعة الكبرى في المكتبة. وفي الاحتفال، اعتذر أحد النقَّاد من أمل، فقال: «هجومنا عليه لم يكن فنيِّاً بل كان شخصيَّاً، وقد آن أوان الاعتذار»، وقيل كلام كثير، وقدَّم المايسترو شريف محيي الدِّين، في نهايته، قصائد للشَّاعر بالطريقة الأوبراليَّة. وإذا علمنا، إضافة إلى هذا الاحتفال، أنَّ المجلس الأعلى للثَّقافة أقام له احتفاليَّة كبرى منذ سبع سنوات، نسأل: لماذا هذا الاهتمام من المؤسسة الرسميَّة به، بعد رحيله، هل لأنَّه شاعر كبير؟ وهل لأنَّنا اعتدنا أن نعرف عظماءنا ونكرَّمهم بعد رحيلهم؟ ثمَّ هل تبدَّد الخوف منه بعدما رحل؟ قد تكون هذه أسباب، ولكنَّها ليست كافية، فالسبب الأساس يتمثَّل في سعي المؤسَّسة الرسميَّة إلى توظيف ما يمثِّله أمل دنقل في خدمة مشروعها. هي تفعل ذلك، وقرَّاء شعره يقولون للمؤسَّسة الرسميَّة ويقول قرَّاؤه: لها أن تسعى مشكورةً على التَّكريم، ولقصائده أن تبقى كما كانت، وكما كان، لا تتواطأ ولا تنحني.