ولما وجد المهيمنون على الاقتصادات الهامشية أنهم بمنجى، أثاروا «عاصفة نقدية»، لا في أسواق النقد – الوليدة عندهم – أي أسواق الأوراق المالية التي لا يتجاوز رقم أعمالها في الشهر الكبيس، ما ينفقه واحد من لصوص المال المعولَم ليحتفل بختان ابنه، أثاروا العاصفة النقدية، أو شجَّعوا على إثارتها في «سوق الإبداع» المكتوب وغير المقروء والمرئي والمسموع «لصرف الأنظار ربما عن هزالهم النقدي». والدليل على ما أقول، تفاقم المهرجانات الأدبية التي تعالج انحطاط «النقد» الذي استباحه المُقرّقون والنواقيد «جمع ناقود» من كتبة الزمان الأخير. دون نسيان الدراسات الصحافية والأعداد الخاصة من الملاحق الأدبية والندوات المرئية المسموعة، والندوات «السرية» التي تُعقد في المنازل أو في غيرها من المقاهي حيث يلتقي «الفاعلون» في الشأن الثقافي من أجل توجيه السفينة التي تُقِلُّ المبدعين على تفاوت أصنافهم لا إلى الفراديس الرافلة بالتهرب من الضرائب - وهو تهرب مشروع في رأيي كناقود ومقرّق، لا كفاعل في أي «ستوك إكس شانج» غير معولَم - بل إلى جَنّات الجوائز «النقدية» التي استفاق على أهميتها حيتان المال بين الخليج والمحيط، هؤلاء الذين كان المبدعون - بين الخليج والمحيط - لسنوات قليلة خَلَوْن، يغدقون عليهم نعوتاً مُستَخْرَجَة من مناجم الجبال القائمة على دروب التقدم والحتمية التاريخية ومناهضة الإقطاع والرجعية والرأسمالية والظلامية الناجمة عن نقص الكهرباء التي ربط أحدهم انتشارها - الملموس - بانتشار فكرة غير ملموسة.
استمرَّ المبدعون ينعتون أولئك الطفيليين بأقذع النعوت إلى أن جاء اليوم الذي نتمتع فيه برؤية المبدعين أنفسهم - كبارهم بخاصة - يُغدقون على أولئك الطفيليين نعوتاً مُستخرجة من أسواق صنع الحلويات العربية الشهيرة، لأن الطفيليين استفاقوا على خطورة «أعطِه يا غلام» من بيت مال الرعية، أعطه جائزة تكريمية، تشجيعية، تقديرية، مدموغة باسم مانحها شخصياً، بالنيابة عن قطعان القراء والمشاهدين والمستمعين، التي ستنصرف حتماً عن قضم حشيش المبدعين، إلى تأمل كميات «النقد» المتراكمة على الجوائز.
أنا الآن متأكد من انصراف أكثرية من حاولوا قراءة هذه السطور «التوتولوجية» إلى غيرها، وهذا ما أتمناه من أجل تقديم ما أردت قوله عبر السؤال المطروح في عنوان هذه الورقة.
أنفقت منذ أسابيع، كمية زهيدة من «النقود» لشراء مجموعة من القصص كتبها أديبٌ عربي معروف، وانتحيت ركناً هادئاً لقراءتها. استعرضتُ عناوين القصص وانتقيتُ عنواناً مماثلاً لاسم الجريدة التي أراسلُها، متفائلاً بهذه المصادفة، فاسم الجريدة مستعار من حيوان أليف اشتُهر بالوفاء والأمانة، هاتان الصفتان النادرتان عند مخلوقات أخرى.
بدأ الأديب المعروف القصة بهذه الجملة: «كان جالساً على مؤخرته»... بينما يعرف كل من أدرك نصيباً متواضعاً من العلم بلغتنا العويصة أن المخلوق المذكور يُقعي ولا يجلس. أما كان ينبغي للأديب المعروف أن يكتب: «أقعى... وشمس الشتاء الدافئة تنعكس على وبره الأبيض»... أضرب صفحاً عن مناقشة مسألة: «تثاءب مرة فرأيتُ صفين طويلين من الأسنان الحادة القاطعة...» لأنني شعرتُ برغبة في التثاؤب أيضاً، ومع ذلك تابعت القراءة إلى أن عرفت ما جرى للبنت ميسون جارة الكاتب الذي يحكي القصة التي شاهدها وهو صبي حين «عَضّها في مؤخرتها عضةً مزّقت الفستان وجعلت لحمَها الطري الملطخ بالدم ينكشف أمام العيون»... تقدرون ولا شك أن الكاتب لم يعض ميسون، بل عضها ذلك الذي كان جالساً على مؤخرته.
رحت أُسرع في قراءة القصة - غير الطويلة لحسن الحظ - وعرفت أن أبا ميسون أهوى بالبلطة على الكلب وقتله - بعد لأي - لأنه آذى ابنتَه أكثر من مرة. وأن ميسون تباهت أمام زميلها الصغير بما فعله أبوها... إلى أن فوجئتُ بهذا الحوار الختامي بين البنت والصبي «وركضنا معاً بنشوة دافقة، وسألتُها:
كيف حال العضة؟ فقالت وهي تلهث: سال منها الدم ثم جف»...
أنا لست من هواة الواقعية الاشتراكية ولا الرأسمالية، ولا أهتم إلا بالتفاصيل التي تصنع كلّية الحدث، وأتساءل هل يُعقل ألا يخطر ببال كاتب وهو يحكي عن كلب عض بنتاً صغيرة أن ينسى «مبادئ» صنعة الكتابة - بما فيها الخيالية والفانطازية - التي تفرض في هذه الحال لا على والد الطفلة فحسب بل على الراشدين الذين شاهدوا العض، المسارعة إلى نقلها إلى أقرب طبيب أو ممرض أو مركز إسعاف، أو إلى «الكاهن» الذي يعالج المرضى في غياب أولئك جميعاً، لا أن ينصرفوا إلى تأمل «لحمها الطري الملطخ بالدم»؟ ثم الإصرار على الجهل والخطأ والاكتفاء بسؤالها عن العضة التي سال منها الدم ثم جف...
قرأتُ بالأمس في جرائدنا أن أكثر من ألفي مواطن في حلب وحدها راجعوا مركز مكافحة «الكَلب» في عام 2009، لأن من يعضه كلب، ولو لم يكن من كلاب «أبو شطارة» كما في القصة لا «يركض بنشوة دافقة» بل يُهرَع إلى أقرب مركز إسعاف. فكيف يريد مبدعونا بناء جسر الثقة بينهم وبين القراء إذا كانوا لا يهتمون بالتفاصيل؟...
لست أعرف ما إذا كان مجلس مدينة حلب، أو أحد أعضائه قد قرأ القصة المنوه بها، التي وُزّعت المجموعة التي ضمتها مع صحيفة محلية واسعة الانتشار، غير أن المجلس بادر إلى «شن حملة على الكلاب الشاردة بعد تحقيقها - أي الكلاب - لمعدّل عضات مرتفع» وهو يدفع مئتي ليرة لقاء كل كلب «قتيل» شرط إقامة الدليل بتقديم... «ذنب الكلب وهو دائماً معووجُ» كما جاء في حكمة العدد الأول من صحيفة «الكلب» الصادرة منذ أكثر من نصف قرن، والتي أسسها أستاذنا الراحل صدقي اسماعيل.
لن أختم هذا الحديث قبل التنويه بجهود الدائرة الصحية في مجلس مدينة حمص، التي قَنَصَتْ مئة وخمسين كلباً شارداً منذ بداية العام الحالي... ولم تمكنها من عض البنات وتمزيق فساتينهن وجعل لحمهن الطري الملطخ بالدم ينكشف أمام العيون... كما كتب الأديب المعروف في قصته غير المعروفة... وقبل أن أطرح سؤالي البريء على دهاقين النقد الأكاديمي الذين ينعون غياب «النقد» عن مواكبة الإبداع: أَهُوَ نقدٌ أم ماذا؟ ما تضمنته السطور... - أعني - أنا شخصياً أظنه ماذا...
عرضتُ ما كتبتُ على ابن أخي، كدأبي قبل أن أغامر بالنشر في غير الجريدة التي أراسِلها، قال لي بعد أن قرأ طريحتي النقدية: أخذت على مؤلف القصة قلة اهتمامه بالتفاصيل، فارتكبتَ الخطأ نفسه حين كتبتَ عن قنص كلاب حمص «لمنعها من عض البنات وتمزيق فساتينهن... إلخ»... دون أن تنتبه إلى وقوعك في خطأ مماثل لما وقع فيه مؤلف القصة، من ناحية الاهتمام بالتفاصيل، فمنذ كم من السنين كادت الفساتين تختفي نهائياً أمام اكتساح السراويل ذات القماش الخشن المتين «الجينز»، وهذا تدبير وقائي - ربما - لجأت إليه الفتيات لتفادي تمزق الفساتين إذا عضتهن الكلاب... أو بعض المخلوقات الأخرى.