تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الرأسمالية.. قصـــــة حـــــب

ملحق ثقافي
30 / 3 / 2010
محمد علام خضر:لقد أثبت صانع الأفلام التسجيلية الأمريكي المعروف مايكل مور، المثير للجدل،

‏‏‏

أنه يتمتع بحسٍ استثنائي ومتميز نحو تقصي الوجهة التي تميل إليها روح العصر وطابعه الفكري والثقافي والاقتصادي والأخلاقي لدرجة جعلت الكثير من النقاد يلصقون به صفة «عصا الاستنباء» «التي يستعين بها بعض الموهوبين للتعرف إلى وجود الماء أو المعادن تحت الأرض». ففيلمه «أنا وروجر» «1989» قد سبق انهيار سوق صناعة السيارات الأمريكية المتمثلة بأكبر شركة في الولايات المتحدة والمعروفة باسم «جنرال موتورز». كما تنبأ فيلمه «فهرنهايت 11/9» «2004» بانهيار «القصر الورقي» الذي شيدته إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش لجرّ الولايات المتحدة إلى خوض الحرب في العراق. ثم جاء فليمه «سيكو» «2007» لينذر بانهيار نظام الرعاية الصحية وشركات الصناعات الدوائية في الولايات المتحدة. وهاهو الآن في فيلمه «الرأسمالية: قصة حب» الصادر في أيلول 2009 يركب مايكل مور موجة انهيار ثقة الشعب الأمريكي بالنظام المالي السائد في البلاد نتيجة الآثار الكوارثية لهيمنة الشركات المالية والاقتصادية على حياة الأمريكيين.‏‏‏

«الرأسمالية: قصة حب» فيلم تسجيلي طويل «127 دقيقة» يتناول تداعيات أزمة الرهن العقاري التي بدأت في الولايات المتحدة في عام 2007 نتيجة الارتفاع المفاجئ في أسعار العقارات وعجز المقترضين عن سداد ديونهم للمصارف التي انخفض مستوى تمويلها للشركات والأفراد من دون فرض سعر فائدة أعلى لتحقيق الأرباح الفاحشة. لذلك تهافتت المؤسسات المالية على منح القروض من دون ضمانات كافية، لكن العجز المتزايد في السداد أفضى إلى انخفاض الإنفاق الاستثماري والاستهلاكي، ما أدى إلى حدوث هزة قوية جداً للاقتصاد الأمريكي انهارت خلالها مؤسسات مالية ضخمة. وطالت تداعيات تلك الأزمة مختلف القطاعات الاقتصادية وأدت إلى خسائر مالية لا تحصر وتكبدت المصارف خسائر جسيمة جعلت بعضها تشهر إفلاسها بينما انهار بعضها الآخر انهياراً كاملاً. ثم اتسعت رقعة الأزمة المالية المحلية لتتحول إلى أزمة عالمية حين امتدت توابع هذا الزلزال الاقتصادي لتطال مؤسسات مالية كبرى في أوروبا وآسيا بسبب ارتباطها الاستثماري بالسوق المالية الأميركية. ولا تزال هذه الأزمة المالية الأمريكية إلى الآن تلقي بظلالها على العديد من الأنظمة الاقتصادية في مختلف أنحاء العالم.‏‏‏

‏‏

ومن هذا المنطلق يرى صانع الأفلام مايكل مور أن تردي الأوضاع الاقتصادية وتفاقم المشكلات الناجمة عنها يعود إلى النظام الرأسمالي بما أنه يقوم أساساً على مفهوم تنمية الملكية الفردية بحيث تكون وسائل الإنتاج والتوزيع والأسعار جميعها مرهونة بالسوق الحر ومبدأ العرض والطلب والتأكيد على حق المالك بالاحتفاظ بالأرباح أو إعادة استثمارها.‏‏‏

لذلك يركز فيلم مور الجديد على الاقتصاد الأمريكي لاسيما خلال المرحلة الانتقالية بين الإدارة الأمريكية السابقة في عهد بوش وإدارة الرئيس أوباما الجديدة. وبينما يتطرق الفيلم إلى القانون الأمريكي لإنعاش الاقتصاد وإعادة الاستثمار الذي استصدره الكونغرس في شباط 2009، يوجه أصابع الاتهام إلى النظام الاقتصادي القائم في الولايات المتحدة والرأسمالية بشكل عام. ويستعرض مور السياسة السائدة في «وول ستريت»، وهو شارع سوق الأوراق المالية في مدينة نيويورك، والذي يمثل في الوقت الحالي الواجهة الرئيسة للسوق الأمريكية كلها بما أنه يضم إدارات سوق البورصة وكبريات الشركات المالية والمصرفية الأمريكية، مسلطاً الضوء على «رأسمالية الكازينو» التي جعلت أسواق الأسهم في «وول ستريت» تصبح بمثابة كازينوهات عالمية كبيرة ومزادات فورية في كل ساعة من ساعات اليوم، ما أدى إلى نشوء رأسمالية خاصة قائمة على المضاربة والاحتكار واستغلال النفوذ بهدف جمع الثروات بأسرع ما يمكن. وينتقد مور العلاقات الوثيقة التي تربط المصارف والشركات التجارية الكبيرة بالسياسيين والمسؤولين الماليين في الحكومة الأمريكية، مشيراً إلى أن القوانين يتم تعديلها أو تغييرها لتتلاءم مع مصالح بورصة «وول ستريت» وليس لصالح المواطن العادي.‏‏‏

إن رؤية مور ليست رؤية شخصية صرفة كما فسرها البعض لأن هذا التصور لم يتطور قبل ظهور فيلمه وحسب، وإنما قبل ظهور أزمة الرهونات العقارية ببضع سنوات. ففي مقالة نشرتها صحيفة «غارديان» اللندنية في آذار 2001 تحت عنوان «كازينو الرأسمالية: قامر الأمريكيون على سوق الأسهم المالية لتأمين مستقبلهم، وهاهم يخسرون!»، أشار كاتب المقالة «غاري يونغ» إلى تحول الملايين من الناس من مجرد متفرجين إلى لاعبين في السوق... لكن «ورقة التين» التي غطت ذلك الاتجاه أصبحت في مهب الريح لتكشف أن الأمريكيين قد قامروا على ذلك المستقبل في كازينو الرأسمالية الكبير وخرجوا منه خاسرين. إن «الرأسمالية: قصة حب» فيلم تسجيلي جريء في نقده اللاذع للأوضاع الراهنة من خلال سرد حكايات مأساوية مغلفة بكوميديا سوداء، وقصة الحب التي يرويها هي قصة تراجيدية. فمور يبدأ فيلمه بسلسلة من اللقطات التي تصور بعض عمليات السطو على المصارف، مروراً بمقاطع فيديو من أرشيف الموسوعة البريطانية يقارن من خلالها بين الإمبراطورية الرومانية في الأمس وأمريكا اليوم، وصولاً إلى سلسلة من المقابلات التي يجريها مع شخصيات من مختلف الشرائح الاجتماعية. ومن تلك الشخصيات التي يستضيفها مور في فيلمه بعض رجال الدين الذين يعتقدون أن الرأسمالية هي الشرّ المطلق لأنها لا تحمي الفقير وإنما تشجع على الانغماس في الجشع والطمع، وهو أمر يتعارض مع القيم الدينية المسيحية. وتتمثل ذروة الفيلم في المشهد التهكمي الذي يحدد فيه المخرج «وول ستريت» مسرحاً للجريمة، حيث وضع حول أحد أهم مباني المؤسسات المالية شريطاً أصفر – كالذي تستخدمه الشرطة عادة – كتبت عليه عبارة «ممنوع الدخول، مسرح الجريمة». فالرسالة التي يريد مور بثها عبر فيلمه هي أن الرأسمالية شر لا سبيل إلى إصلاحه. ويؤكد مور على ضرورة استبدال الرأسمالية بما فيه خير الشعوب لأن التدهور الحاصل يعود إلى غياب الديموقراطية في النظام الاقتصادي، ويرى أن الديموقراطية الحقيقية هي الحل الأمثل الكفيل بتحقيق رغد العيش لجميع فئات المجتمع. ففي مؤتمر صحفي عقد بعد إصدار الفيلم قال مور: «الديموقراطية ليست عملاً استعراضياً لجذب المتفرجين والمشجعين وإنما نشاط تشاركي يعتمد أولاً وأخيراً على المشاركة».‏‏‏

ومع أن الفيلم يضع اللوم على جميع الأحزاب السياسية الأمريكية، بما فيها حزب الديموقراطيين، إلا أنه يستثني وبمنتهى الحرص الرئيس أوباما، الذي يرى فيه مور بارقة الأمل نحو تحقيق العدالة المنشودة. فمور يعتقد أن ملامح حركة شعبية جديدة ضد الرأسمالية بدأت تتشكل مع وصول الرئيس أوباما إلى السلطة. ورداً على سؤال عن الأثر الذي كان يطمح إلى تحقيقه من «الرأسمالية: قصة حب»، ضحك مور قائلاً: «لقد صنعت هذا الفيلم من أجل جمهور يتألف من متفرج واحد، ألا وهو الرئيس أوباما. آمل أن يشاهد الفيلم ويتذكر أن الشعب هو من أتى به إلى البيت الأبيض... إن نجاح أو فشل الرئيس أوباما لا يعتمد كثيراً على إنجازاته بقدر ما يعتمد على ما نقوم به نحن من أعمال كفيلة بتأييده... فعندما نقدم الحقائق للناس ونعرض لهم حقيقة ما يجري، لابد وأنهم سيلجؤون إلى القيام بما هو صحيح.»‏‏‏

وقد أصدرت إحدى المنظمات الأمريكية غير الحكومية والمعروفة باسم «مستقبل بلا حروب» والتي يؤكد أحد أركانها على أن أية حملة ترمي إلى إنهاء الحروب لابدّ وأن تشتمل على نشر الديموقراطيات الحرة والناضجة والحفاظ عليها من التدهور والانحلال، أصدرت بياناً حثت فيه كل مواطن أمريكي يحب بلاده ويثق بأنها قادرة على استعادة جذورها الديموقراطية ومبادئها المثالية الحرة على أن مشاهدة فيلم مايكل مور الجديد هي مسؤولية مفروضة على جميع الأمريكيين، لافتة النظر إلى أن «الرأسمالية: قصة حب» قد يتطلب أكثر من مشاهدة واحدة بهدف استيعاب مضامينه من دون أي سوء فهم محتمل.‏‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية