من متطلّبات السنة الرابعة في قسم اللغة العربيّة، في جامعة حلب. وكانت المدوّنة مجموعة أوراق قدّمت في ندوة «الرواية والإديولوجيا» في «قابس» التونسية، ويعود تاريخها إلى عام 1986 حيث كتبت يمنى العيد، ومحمود أمين العالم، ونبيل سليمان. لم أكن أعلم وقتها أنني سأكون بعد اثنتي عشرة سنة في المكان ذاته، لأحاضر على المنبر ذاته في التحوّلات التي طرأت على الموضوع ذاته: «الرواية والإديولوجيا»، وذلك في الندوة التي عقدتها جمعيّة مركز الرواية العربيّة في «قابس» في شباط 2010، بإشراف الأستاذ الدكتور والروائيّ محمد الباردي، وبمساهمة كوكبة من المفكّرين والمبدعين والنقّاد العرب، الأستاذ الكبير توفيق بكّار، ومحمود طرشونة، وأحمد المديني، وعبد الرحمن مجيد الربيعي، ومحمد الخبو، وأحمد الجوة، ونجيب العمامي، ونبيل سليمان، وأسماء شابّة من مثل: سلوى السعداوي، والعموري الزاوي، ومحمد صالح مجيّد، والمنذر بالريش.
«قابس» المسافرة جنوباً نحو البحر، مدّت لنا كفّها مخضّبة بحنّائها الشهيرة، وسقانا نخلها حلاوة روحه في المشروب الشعبي: «اللاّقمي»، في الوقت ذاته الذي أشرعت فيه قلبها للثقافة، إذ حوّلها أبناؤها إلى عاصمة من عواصم الرواية العربيّة، وهي بذلك تشبه إلى حدّ كبير «الرقّة» السوريّة، مدينتي، التي تحوّلت أيضاً بوعي أبنائها وإرادتهم إلى عاصمة أخرى من عواصم الرواية، بعيداً عن مركزيّة المدن الكبرى.
تبدو عودة موضوع العلاقة بين الرواية والإديولوجيا إلى الضوء، خطوة واسعة باتجاه عودة المعنى إلى الفنّ الروائيّ، ويمكن تلخيص بعض ما طُرح في ندوة «قابس» في سؤال رئيس هو: هل تلاشت الإديولوجيا من الكتابة الروائيّة أم أنّها ما تزال ماثلة، بعد تهافت الإديولوجيّات الكبرى؟
أعتقد أنّ توغّلنا في نظريّات السرد، واستفاضتنا في الكلام على التقنيّات، دليل على حالة تضييق وعسف فيما هو خارج الأدبيّ، أي في الثقافيّ/ الاجتماعيّ/ السياسيّ، ممّا سيفضي بنا إلى خواء فكريّ، إذ يصبح النصّ بذلك مجرّد حركات استباقيّة أو تراجعيّة، أو سيتحوّل إلى مجموعة من البؤر السرديّة متفاوتة الأهميّة، من غير اكتراث بالمواقع الثقافيّة للمتكلّمين فيه، سواء أكانوا يمثلون الراوي، أم الشخصيّات أم الروائيّ بحدّ ذاته، في حين يمثّل النصّ الروائيّ أيقونة ثقافيّة يصنّعها المبدع في أثناء علاقته التاريخيّة بالبنية الثقافيّة- الاجتماعية، ويسعى الناقد في الوقت ذاته ليفكّك تفاصيل العلاقة المجازيّة بين الأيقونة وبين تلك البنية التي أنتجتها.
لعلّ الإديولوجيّات الكبرى التي تشظّت، أنتجت إديولوجيّات صغرى، هي إديولوجيّات الأنساق التي كانت مقصاة أو مهمّشة، نتيجة لتسيّد سابقتها، إذ تمّ إبدال المتعاليات السابقة بمتعاليات جديدة تفرضها النصوص المكتوبة برؤية نسقيّة: نسوية، أوإثنيّة، أو دينيّة... فتمّ بذلك الردّ على الإديولوجيا بإديولوجيا مضادّة. إنّ ما تبحث عنه الرواية اليوم، من وجهة نظري، هو التخلّي عن فكرة المتعاليات عموماً، إنّها تبحث عن ميدان بعيد عن فكرة الضحايا التي تتبادل الأدوار على كرسيّ الجلاّد. وفي حين تصرّ إحدى أوراق ندوة «قابس» على أنّ الإديولوجيا أوسع من رؤية العالم، تصرّ ورقتي على العكس، إذ تنماز رؤية العالم بفضاء واسع من الديموقراطيّة، فهي تؤمن بوجودها مع وجود رؤيات أخرى حولها، أمّا الإديولوجيا ففيها نفوج ودوغمائيّة منفّران، فهي تنظر إلى نفسها، أو ينظر إليها أصحابها بوصفها الخيار الوحيد الصحيح، وكلّ ما هو غير موالٍ أو مؤيّد أو حليف، ليس إلاّ مصدر خطر، ويجب إقصاؤه على أقلّ تقدير.