تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


آرثر رامبو.... الرجل ذو النعال الطائرة

ملحق ثقافي
19/ 6/ 2012
د. عبد الهادي صالحة : بعد ولادته بمائة وخمسين عاماً لا يزال «الرجل ذو النعال الطائرة» وهي الكنية التي كان يطلقها عليه رفيقه بول فيرلين يجسد نبياً أدبياً متوهجاً ويشع ناراً، نصف ملاك ونصف شيطان.

ولد آرثر رامبو «1854- 1891» في مدينة شارلفيل، في شمال فرنسا. امتدت حياته الأدبية على فترة خمسة سنوات 1870- 1874. ولمع نجمه باكراً في القرن التاسع عشر مع شخصيات «شيطانية» مأساوية حلت عليها لعنة التاريخ: بليك ونرفال وكيركجارد ولوتريامون وسترندبرغ ونيتشه ودوستويفسكي، وكانت تبحث عن «فضاء أوسع وحرية أكثر».‏‏

يعتبر آرثر أمه المسؤولة الأولى عن «الدم السيء» الذي يجري في عروقه، وعن تعميده،- وحسب رأيه- عن لعنته. كانت أمه «امرأة حديدية» لم تحاول أن تفهم شيئاً من عبقريته المبكرة. رأى رامبو أن الشعر هو بشكل خاص ثورة. لذا ثار في وجه كل قوة أو سلطة أدبية كانت أم فلسفية أم دينية تزعم أنها تحني ظهر الإنسان تحت نيرها. وكانت المؤسسة التي أثارت عنف رامبو أكثر من غيرها: هي الكنيسة. كما تصدى للبرجوازيين، وسخر من كل القيم البرجوازية ومارس التحدي الممنهج وانتهك كل المحرمات. ولقد ساهمت الكحول والمنشطات والمخدرات في التعبير عن الرؤى الصبيانية التي كانت ما تزال غضة وحاضرة في وجدانه. إن إرادة رامبو في مخالفة وانتهاك القواعد توجد على ثلاثة مستويات: الاجتماعي والفردي والشعري.‏‏

وعى رامبو العديد من الجرائم، وكانت الجريمة الأكثر عبثية والأكثر قسوة هي جريمة الحرب «الراقد في الوادي». لذا توجب الهروب كبوهيمي حيث كان ينام في العراء باحثاً عن «الحياة الحقيقية» بعد أن سكنه هاجس حلم رفع المرساة والانطلاق، والذي سيكون موضوع «السفينة السكرى» التي قدر لها أن تصبح من أشهر قصائد القرن التاسع عشر. هرب آرثر عدة مرات وأوقف بجنحة التشرد. تعرف على الشاعر الفرنسي بول فرلين، وعاش معه حياة بوهيمية ومنحرفة في بلجيكا وإنكلترا. وكشف هذا الهروب المتكرر عن حاجة لديه لا تقهر للأسفار ولرؤية أماكن أخرى. وفي أيلول 1871، عشية ميلاده السابع عشر، ترك آرثر مدينة شارلزتاون نهائياً، وقد اتخذ هذا القرار بالمغادرة تلبية لنداء بول فرلين الملح: «تعالي أيتها الروح العزيزة الكبيرة، هناك من يناديك، هناك من ينتظرك».‏‏

كانت الحياة بالنسبة لآرثر اغتراباً جذرياً، وقطيعة مع كل العادات المكتسبة من التربية. حلم رامبو «بتغيير الحياة»، ولم تكن الإصلاحات النسبية تهمه، إنه يريد تغييراً مطلقاً، ولهذا فإن القلق الاجتماعي يفسح المجال بسرعة عنده لفكرة ثورة أخلاقية: يجب أن تحدث الخلخلة الكبيرة بداخلنا، لذلك «دعا إلى تحرير العقل وحب الحياة»، يقول آرثر: «أيها الأرقاء دعونا لا نلعن الحياة.. لتمض الأصنام الزائفة وعصي العلم، حرروا العقل والقلب والجسد والنفس كي يحل الأمان. إني وحش زنجي، لكن يمكنني أن أنال الخلاص، وأنتم الزنوج المزيفون، أيها التافهون المسعورون الخبثاء، أنا الزنجي الحقيقي، ليكن لنا عيد ميلاد على الأرض».‏‏

وفي المجال الفني، كان آرثر يتعطش تعطشاً مطلقاً لجمالية جديدة، لذا ابتعد آرثر جميع مبادئ الشعر التقليدي لصالح رؤية مطلقة مؤسسة على جمالية خارج الأطر والقواعد المألوفة، وأخضع جميع خياراته «الشعرية والشخصية» لقناعاته الملحة والمتوجهة نحو مثل أعلى كوني، شمولي. سعى رامبو إلى توحيد الفن والحياة وقال: «ما نفع الشاعر إن لم يصل إلى رؤيا جديدة للحياة؟ وصرخ: أمسك بالمكب ولا تجلس مرتاحاً في الحطام، لتشكل أحجية من تجميع اللقى». كان رامبو إذاً رجل الثورة الرجيم. إن ثورة رامبو هي، في الحقيقة، أكثر غرابة مما تبدو للوهلة الأولى: إنها رفض كامل لجميع شروط الوجود: يجب «إعادة صناعة الحياة». لقد اكتشف رامبو أن الشعر «فقد ألقه وتأثيره أمام سحر كلمات الزعيم الديماغوجي أو أمام هدير القنبلة الذرية»، وقال: «الشاعر عندي هو القادر على تغيير العالم تغييراً عميقاً، ليعلن عن نفسه إن وجد وليرفع صوته إن استطاع أن يعلو على هدير القنبلة، لأن عليه أن يستعمل لغة تذيب القلوب، وتجعل الدم يغلي في العروق».‏‏

رأى رامبو أن الحضارة لا تفعل شيئاً سوى حبس الإنسان في قواعد أخلاقية منافقة. ولكي يسترد «البراءة الأولى» و»النقاء الأول»، ولكي يتنشط في قوة خلاقة أصيلة، فإن أول واجب من واجبات الفنان هو أن يصبح «رائياً». في عام 1871، أكد في مطبوعته الشهيرة «رسالة الرائي» «أن الشاعر هو فعلاً سارق للنار»، شبيهاً ببروميثوس الجبار.‏‏

عرض رامبو في هذه الرسالة مفهومه عن الشعر كرؤيا، إن الشاعر «كسارق نار حقيقي» يجب أن ينقل في كتاباته رؤى عن المجهول، ويعبر فيها بوضوح عن خياره الجمالي: لقد ثقف رامبو الرؤى الأكثر إبهاراً من خلال «خلخلة طويلة وواسعة وعقلانية لجميع الحواس». وألزم نفسه لمدة عامين آخرين بهذه «الخلخلة المنهجية» التي تفترض خلخلة الإدراك الحسي المعتاد الإرادي، وذلك بواسطة تعاطي المخدرات وأيضاً بواسطة الحلم. وما انفك يكرر: «أريد أن أكون شاعراً، وأعمل على أن أصبح عرافاً. يتعلق الأمر ببلوغ المجهول من خلال خلخلة جميع الحواس». إن تثقيف النفس يتيح بلوغ اللامرئي، والرؤى التي لا أهمية لطابعها المجرد، ولا يعتد إلا بحضورها، وتجسدها في لغة جديدة «سيتوجب أن يجعل الآخرين يحسون، يجسون، يصغون إلى غاياته. إذا كان ما يأتي به من هناك له شكل، فإنه يعطي شكلاً؛ وإذا كان بدون شكل، فإنه يعطي اللاشكل. يتوجب إيجاد لغة». أخلت هذه الخلخلة في بداية الأمر، وبدقة هي أشبه بتلك التي يقتضيها صنع المصوغات، بلغة الشعر التي تخلصت من البحور الشعرية المكونة من اثني عشر بيتاً ومن المفردات ومن استعارات وكلام متعارف عليه، رأى رامبو أن الشاعر هو، من خلال اللغة، مجرب وموضوع تجريب في الوقت ذاته. وهو يبحث تحت مسؤوليته وخارج حقل الوعي عن ذاته، متخلصاً من كل ما قد يعيقه في بحثه «وخصوصاً، العروض، والتماسك الدلالي وكل أثر إيقاعي».‏‏

وجد رامبو نفسه من خلال «كيمياء الفعل» منقاداً أكثر فأكثر بشكل منهجي ومنظم من متطلبات عروض البيت الشعري التقليدي؛ سجع غامض يحل محل القافية، ولم يعد يحترم عدد المقاطع، وابتداء من «فصل في الجحيم» لعام 1873 و»الذي هو مجموعة من الرؤى الغريبة التي يأباها منطق العقل» ينتهي بتكييف القواعد القديمة ليخضعها إلى إرادته الشعرية: حرية كاملة بالنسبة للقافية واختيار البيت المفرد، ثم النثر، ثم تفكيك المقطع، وغنى وغرابة وشذوذ الصور، وفي العام التالي «إشراقات»، تختلط فيهما القصائد النثرية بالأبيات الموزونة – وهما يحاكيان، برقة إيقاعهما، موسيقى الليل الخفيفة والناعمة عند فرلين -، وهما اللذان بثا كيمياء الكلمات الجديدة تلك، فقد تم ترسيخ استعارات غير مألوفة: «أجلست الجمال على ركبتي. وجدته مراً، وشتمته»، وتوليف نغمات لم يكن بالإمكان تصورها «إنني أعتبر مؤلفاً جديراً بالتقدير أكثر من كل من سبقوني،حتى إنني موسيقي أوجد شيئاً ما مثل مفتاح الحب». وهناك رغبة في «امتلاك الحقيقة في نفس وجسد» تضع نهاية لمأساة الأنا المنقسمة، الممزقة بين العقل والجنون، الحس السليم والهذيان. عندما تقطع الروابط من كل جانب مع «الأرض القديمة» ثقافتها أو علومها، فإننا نستطيع الوصول إلى المعرفة الكاملة لطبيعتنا وللطبيعة. كيف السبيل إلى ذلك؟ وكيف نستطيع بلوغ «المجهول». يجب اختراع لغة أو لغات جديدة»، يجب تفجير اللغة التقليدية التي كان قد بدأه لامارتين وهيجو وبودلير. وهكذا يبدأ عمل لغوي طويل وواسع ومثابر لا نهاية له، لم يكن المقصود خلق أساليب جديدة. بل كان المقصود استنطاق اللغة باستمرار- هذا الحامل للتاريخ القديم – وجرها لارتكاب خيانة، لخيانة نفسها، لخيانة الجانب غير المعترف به، «البراءة الأولى».‏‏

ويسير غيوم أبولينير في مطلع القرن العشرين على المنحى ذاته، ففي بعض القصائد من ديوان « كحول Alcools «- حالة تسكع Zone «في النهاية يتعبك هذا العالم القديم» و»شهر قطاف العنب Vendemaire « يقول «أنصتوا لأناشيدي عن الثمالة الكونية».‏‏

الورثة السرياليون‏‏

وكذلك نرى أن الرمزيين والسرياليين سيمشون على خطاه. لقد انطلق الشعر الرامبوي «من فكرة الحلم التي غدت إحدى الروافد الأساسية للرمزيين، واهتم رامبو بوجوب بناء مادة الشعر بناء حياً كما تمثل في الحلم، الذي لا يعنى به سوى تهيؤات الوهم المنبثقة من اللاوعي، مما يساهم في خلق نوع من الأوهام الغريبة التي تكون منبع الشاعرية الحقة». لقد اعتمد رامبو على اللاوعي في تشكيل قصيدته. فكان الأب الحقيقي للمد السريالي من دون منازع، بل هناك من يرى أن الإنتاج الشعري لرامبو يمثل مقدمة من مقدمات السريالية بسبب مافي متن صوره من تفكك وانخطافات سحيقة يعبر بها، بسبب ما فيه من انجذابات رؤيوية. ويرى النقاد: «أن الأشعار، والإشراقات، وفصل في الجحيم، تذهب من الرفض، من تهديم العالم اليومي إلى البحث عن الخلود «وجدتها/ ماذا؟ الخلود» إلى الوجد «فجر» «موكب» من الصور الغريبة يعيد بناء، انطلاقاً من «المركب السكران»، متبعاً إيقاعاً بارعاً، بعيداً جداً عن الكتابة الآلية للسرياليين، العالم الخيالي للحلم. «إشراقات» ذات العنوان الغامض مؤلفة من «استعراض وحشي»، من «ثروات لم يسمع بها من قبل»، لوحات مرسومة على «آلة تعذيب بهية»، وفي الوقت ذاته من «جمل» كاملة حيث الرؤية الكونية تتكثف في سطرين: «نصبت حبالاً من جرس إلى جرس؛ وأكاليل زهر من نافذة إلى نافذة، وسلاسل ذهبية من نجمة إلى أخرى، وأرقص». إن إيقاع القصيدة هو من الآن فصاعداً محدد بإيقاع التجربة التي تنقلها الكلمات التي تحررت بهذا الشكل من التقاليد المتطلبة للشعر، وترتبط فيما بينها بصور هلوسية لكي تعرض رؤى الشاعر:‏‏

« المركبات الفضية والنحاسية-‏‏

مقدمات السفن الفولاذية والفضية-‏‏

تلطم الزبد، -‏‏

تقتلع أرومات العوسج. «بحرية» «إشراقات»‏‏

إن الصورة عند رامبو تنبئ بأبحاث السرياليين: تقيم علاقة بين الأفكار والحقائق التي أبقتها عصور من العادة المنطقية بعيدة عن بعضها البعض، ومن تقاربها غير المألوف ولد كشف عالم جديد ومجهول حيث الأحاسيس، والمواد والألوان تترابط بشكل غير متوقع: «جرس نار وردية»، «غمامة بعد الظهر فاترة وخضراء». تميزت صور رامبو خاصة والسرياليين عامة بابتعادها عن الواقع المادي المحسوس، وهدمها لأنساقه ونظمه الزمانية والمكانية واكتناز تلك الصور بالعوالم الغريبة. وكان من الطبيعي أن يكون مثل هذا الشعر على درجة عالية من الغموض فهو ينطلق بقارئه إلى عالم المخيلة التي تموج بالألغاز والأسرار «لأن الرؤيا الشعرية تتكون بفعل عملية سحرية غريبة عن قواعد المنطق وحتى عن قواعد الغريزة. ولذلك ينشأ العمل في ما خفي من حياة الروح». إنها «نوع من اليوغا التي تهدف إلى استكشاف الحياة الباطنية والغوص في عوالمها».‏‏

لقد جاء رامبو ليعيد النظر في الصلة القديمة بين الشاعر والساحر، حيث اكتشف أن هناك علاقة ضرورية قائمة بين الرؤيا والعرافة والسحر، بالإضافة إلى ذلك نلمس تأثر رامبو بالأدب الصوفي والشعوذات السحرية إذ جعلها إحدى الخصائص التي يقوم عليها شعره، وقد تجلى هذا التأثر من خلال إغراقه في عالم الخيال. «فالواقع عنده قد أصبح يحتمل التعديل والاتساع والتسوية والتمزيق والتوتر بين الأضداد... «1» إنه يحاول خلق نسق جديد يغاير النسق المألوف في واقعنا، هذا ما جعل الخيال الشعري عند رامبو «يقوم على الحرية الإبداعية المطلقة، فيجمع أشتات الواقع المحطم، ويعيد بناءها بناء جديداً متجاوزاً العقبات بين المتناقضات والمتنافرات والنشاز مما يؤدي إلى الغموض المطلق أحياناً»»2».‏‏

يتملك رامبو الشعر، ويعطيه معنى آخر ويخترع وسائل تعبيرية تتوافق مع رؤيته. بالنسبة إليه، لم يعد الشعر حاملاً مشاعر كما عند الرومانسيين وفناً شكلياً صرفاً على غرار البارناسيين. ولكونه اقتدى، في مرحلة أولى ببودلير، شاعر التقابلات، فقد اختار سبر اللامرئي وتحرير المتخيل الذي «يعمل على تفجير العالم» و»ينطلق من المجهول ويتحطم عليه»»3». لقد سعى رامبو إلى تحرير الخيال من العقل والمادة، ولقد «تحول الخيال عنده إلى وسيلة من وسائل هذا الحلم، حلم متدفق ومنقول بإيقاعات موسيقية صاخبة هي في النهاية انفعالات وأوجاع الإنسان المعاصر» «4».‏‏

أجمع النقاد أن «الحريق الذي أشعلته النار الرامبوية في اللغة الفرنسية وآدابها وساهمت في انتشاره فيها لم ينطفئ أبداً»، لا بل إنه يزداد هذا التوهج إضاءة بفضل التكريم الذي أسبغته عليه الأجيال اللاحقة بدءاً من الكاثوليكي المتشدد بول كلوديل الذي وصفه قائلاً: «إنه متصوف في حالة الفطرة» إلى العابث بالتقاليد أندريه بروتون «كان رامبو سوريالياً بالممارسة»، مروراً بمالارميه الرجل الكتوم الكلي التحفظ «تلك المهنة المتعالية لفوضوي بالروح»، وصولاً إلى الرجل السكوت جوليان جراك «إنه أحياناً ناقل للعاصفة».‏‏

مراجع البحث‏‏

Yves Bonnfoy , « Rimbaud « ,»Editions du Seuil»‏‏

Henri Lemaitre, « La poesie depuis Baudelaire « «Armand Colin ,1965»‏‏

د.عبد الغفار مكاوي «ثورة الشعر الحديث»- ج 1.‏‏

د.عبد الرحمن القعود «الإبهام في شعر الحداثة، العوامل والمظاهر وآليات التأويل».‏‏

د.عبد الغفار مكاوي «ثورة الشعر الحديث» ج 1.‏‏

د. بشير تاوريريت «الشعرية والحداثة بين أفق النقد الأدبي وأفق النظرية الشعرية».‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية