من دون أن يعني هذا أن الأفلمة كانت دوماً موفقة، فالحال أن كل أفلمة لنص أدبي تعتبر في شكل أو في آخر خيانة لهذا النص. والمبدعون الكبار حين يتناولون عملاً له وجود سابق على فنهم لا يتناولونه لترجمته حرفياً، أو لمجرد تقديمه سينمائياً، بل كذريعة لعمل جديد قد يختلف كلياً. والنصوص العظيمة لكتاب مثل شكسبير ودوستويفسكي وتشيخوف وكازانتزاكي وماركيز ونجيب محفوظ تعود ليس بإعادة النص الأدبي الذي كتبوه ولكن بطريقة أخرى خاضعة لقراءة جديدة، لتأويل جديد. فالعلامات في السينما تنفتح لمدى بعيد لأن الحياة تنهض في الفيلم متجسدة بكل ما يظهر على الشاشة فاتحة التأويل على مصراعيه.
والنص الأدبي، في كثير من التجارب، وجد حياته الجديدة عبر الفن السينمائي لتحويل النص الأدبي من نص مقيد إلى نص ينطلق عبر شاشة السينما، وكأنما انتظرت النصوص الأدبية العظيمة اكتشاف السينما كي يأخذ النص مداه الأرحب، وفي السينما انعطفنا خطوة جديدة ومعقدة باتجاه انفتاح التأويل على مديات لم تألفها النصوص المكتوبة في السابق لتعدد وسائل الفيلم في تجسيد النص المكتوب واختلاف الوظائف والأفكار والجماليات وراء استخدام عناصر اللغة السينمائية.
يقول الناقد إبراهيم العريس في كتابه «من الرواية إلى الشاشة» لم يكن أورسون ويلز مخطئاً حين قال مرة إنه يعتبر ويليام شكسبير «أعظم كاتب سيناريو في التاريخ» فأعماله نقلت إلى الشاشة عشرات المرات، وتوثق المراجع نحو 500 اقتباس رسمي ومعلن لأعمال شكسبيرية على الشاشة الكبيرة. وتأتي في مقدمة مسرحياته التي تمت أفلمتها «روميو وجوليت» التي اقتبست أكثر من 150 مرة، تليها هاملت 120 اقتباساً، ثم عطيل وماكبث في أكثر من 40 اقتباساً لكل منهما.
علاقة السينما العربية بالرواية قديمة وتعود لأول الأفلام الناطقة في السينما المصرية، ولكن الملاحظ أن في أغلب هذه الاقتباسات التي أتت عبر سينما تجارية أساءت للنص الأصلي أو قدمته بصورة منسوخة أو مشوهة مما حدا ببعض الروائيين كنجيب محفوظ لكتابة سيناريوهات أفلامهم. هذا مع وجود عدد من الأعمال السينمائية القليلة التي أخذت روح الرواية وأضافت إليه روح السينما البصري. ولا بد من القول بداية إن هناك اختلافاً بنيوياً بينها، فالرواية هي عمل فردي وكلغة هي حكاية، بينما السينما كلغة أخرى هي عمل جماعي يساهم فيه عدة مبدعين إضافة إلى المخرج، وهي صورة وتعبير بصري. من هنا يبدأ الاختلاف التعبيري بين الفضاءين التعبيريين. ربما بسبب هذا الاعتماد الكبير على أفلمة الروايات نرى تداخل النص الروائي والنص السينمائي من حيث التأثير المتبادل وزمن الكتابة وبناء الشخصيات عبر جوانياتها وأرواحها وأحلامها وهواجسها ما ساهم في تطوير بنية السرد التقليدية في كلاهما.
وهنا نرى التراكم المعرفي والإبداعي الدائم ونرى أن الروائي أصبح يستفيد كثيراً من التطور السريع في لغة السينما التعبيرية. وأصبحنا نرى عدداً متزايداً من الروائيين العرب استفادوا من «رؤية الكاميرا» في إيجاد تقنية فنية في رواياتهم فيكتبونها بأسلوب سينمائي أخاذ، حتى ليمكنك عند قراءة الرواية أن تلحظ العين السينمائية والتقنية البصرية والسينمائية في السرد الروائي. وهناك أمثلة بأعمال عديدة لإبراهيم أصلان وصنع الله إبراهيم من مصر وحنا مينة من سوريا والراحل غسان كنفاني من فلسطين.
كانت السينما المصرية ستفقد الكثير جداً لو لم يملِ الأديب الكبير عليها ويعطيها من زاده الكثير، كما أن أدب وروايات «نجيب محفوظ» تميزت عن غيرها من كتابات الأدباء الآخرين بكونها تتميز بما يعرف بـ»القابلية السينمائية» لأعماله بسبب احتوائها على حشد كبير من المشاعر والانفعالات، إضافة إلى قدرة الأديب الكبير على التعبير عن الملامح النفسية للشخصيات بشكل يسهل تحويلها إلى شريط السينما، ثم تمتاز أعماله أيضاً في صلاحيتها للسينما في مجملها بدقة وصف المرئيات مثل وصف المكان والحدث والبعد المادي للشخصيات وكذا التعبير البصري عن المجردات مثل التعبير عن المعاني والمشاعر والانفعالات وعن الملامح النفسية للشخصيات والتعبير عن الزمن.. ثم الإيحاء بالعناصر السمعية والبصرية مما يساهم في حركة كاميرا وإضاءة وزاوية تصوير وانتقالات منسجمة مع المحتوي وهو ما لم يتوافر لأديب آخر للدرجة التي جعلت المخرج «صلاح أبو سيف» يستعين بنص جملة كتبها «محفوظ» لوصف انفعالات أحد أبطال فيلم «بداية ونهاية»، ليضعها كما هي في سيناريو الفيلم.
ربما لم تتعامل السينما المصرية طوال تاريخها الممتد لما يقرب من 80 عاماً بكل هذا الترحاب مع أديب مثلما تعاملت مع الأديب الكبير «نجيب محفوظ»، الذي بدوره يمكن وضعه كواحد من أكثر أدباء العالم –وليس مصر فحسب- تعاملاً مع الفن السابع سواء كان ذلك من خلال كتابته للسيناريو والحوار والمعالجة السينمائية لـ26 فيلماً تم إنتاجها في فترة الخمسينات والستينات من القرن الماضي، أو من خلال تحويل 22 رواية من رواياته الثلاثين التي كتبها إلى قرابة سبعة وعشرين فيلماً سينمائياً «من بينها سبعة أفلام اقتبست عن «الحرافيش» واثنان عن «الطريق»» إلى نحو تسعة أفلام مأخوذة عن قصصه الصغيرة. لاقت معظمها النجاح النقدي والجماهيري، وصارت علامة في تاريخ السينما المصرية. هذا غير ما أعد عنه في المسرح والإذاعة والتليفزيون.. وكلها تبرز وجهة نظره ككاتب في التاريخ السياسي والاجتماعي لمصر في القرن العشرين!
ويرى البعض أن نجيب محفوظ استفاد من السينما لأنها هي التي صنعت له شعبية كبيرة بدرجة ربما تكون ساهمت في اهتمام القراء باقتناء كتبه، في حين يرى آخرون أن السينما هي التي استفادت منه في تقديم أعمال شديدة التميز ناقش من خلالها العديد من القضايا الاجتماعية والسياسية المهمة. وأياً كان الرأي، فمن المؤكد أن سينما نجيب محفوظ كانت حالة إبداعية شديدة الخصوصية، لا بسبب طبيعة القضايا التي أثارتها أفلام محفوظ فقط، ولكن لأن محفوظ ارتبط بالسينما وأحبها، والدليل أنه يعد من أكثر الأدباء تعاملاً مع الفن السابع ليس في مصر فقط ولكن على مستوى العالم أيضاً.
وفي سوريا بدأت السينما تكشف عن روائيين كبار، فروايات حنا مينة يعاد طبعها وتمثل سينمائياً، وكان آخر ها رواية الشراع والعاصفة التي أفلمها غسان شميط في آخر إنتاجات المؤسسة العامة للسينما، وكذلك روايات خيري الذهبي التي قام المخرج ريمون بطرس بأفلمة روايته «حسيبة» وحيدر حيدر الذي اقتبس المخرج نبيل المالح فيلم الفهد عن إحدى رواياته.
إن الفيلم السينمائي ليس مجرد قراءة ثانية للعمل الأدبي بوسيلة تعبير مختلفة، بل هو نص آخر مختلف يتكئ على الأصل الأدبي في بعض النواحي، ولكنه لا يشترط به في المحصلة النهائية، انطلاقاً من حرية كاتب السيناريو ثم المخرج في التعامل مع مفردات الرواية. فالكاميرا في يد السينمائي كالقلم في يد الشاعر أو الناثر. ومع بروز سينما المؤلف أصبح المخرج هو الذي يكتب فيلمه، ونرى هنا أن الكتابة السينمائية اكتسبت تميزاً وخصوصيات، وهناك كثير من سيناريوهات الأفلام لمخرجين كبار مكتوبة بصورة أدبية، أي بتعبيراتها اللغوية الأدبية وليس بمعادلاتها البصرية وقد أعيد طباعتها ككتب.