|
غيرنيكانا إضاءات بمعنى التوثيق لحكايات الحرب، وما حدود الاستلهام هنا بحيث نكون بصدد (غيرنيكا) سورية؟. ترتبط غيرنيكا في الذاكرة باسم اللوحة التي أبدعها العبقري بابلو بيكاسو أكثر مما ترتبط بالمجزرة التي ارتكبها الغرب في هذه القرية الإسبانية الوادعة خلال حربه (المعلنة والسرية) على الجمهورية الأسبانية المستقلة. ففي 28 نيسان 1937، وفي أوج التمرد الذي قاده الجنرال الفاشي فرانكو ضد الجمهورية الإسبانية بدعم من حلفائه الغربيين الظاهرين (ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية)، والمخفيين المختبئين خلف ادعاءات إنسانية (بريطانيا وفرنسا)، قصفت القاذفات الألمانية قرية غيرنيكا الوادعة والبعيدة عن جبهة القتال أثناء انعقاد سوقها الأسبوعي، ما تسبب بخسائر بشرية كبيرة ودمار واسع. في هذا الوقت كان بيكاسو يستعد لتقديم عمل لجناح الجمهورية الإسبانية في معرض باريس الدولي، وحين سمع بأمر هذه الجريمة قرر أن تكون موضوع لوحته فقام على الفور بتنفيذ دراسات أولية لها بلغت 75 دراسة، عرضها فيما بعد مع اللوحة لإعطاء فكرة عما أسماه مرحلة الخيال والحلم في ذهن الفنان، من اللحظة التي يفكر فيها حتى يتحقق له في النهاية تجسيد كل شيء كحقيقة مادية، وقد طافت غيرنيكا بعد معرض باريس عدة مدن واستقرت في متحف الفن الحديث بنيويورك بناء على طلب بيكاسو الذي أوصى بألا تعود إلى وطنه قبل تحرره من آثار الفاشية. حيث عادت إلى إسبانيا عام 1981 بعد انتهاء حكم فرانكو، وأقيم لها جناح خاص في متحف رينا صوفيا في مدريد، ضم إضافة إلى دراسات اللوحة، صوراً فوتوغرافية عنها التقطتها صديقة بيكاسو المصورة الفوتوغرافية دورامارا أثناء تنفيذ اللوحة. في هذه اللوحة التي تشكل تحدياً للمألوف، استخدم بيكاسو أساليبه الفنية المتعددة التي طالما عبر عنها مراراً، وخاصة التشويه المأساوي للأجسام والوجوه سعياً للتعبير عن الألم، وقد لخص ميشيل ليريس اللوحة بقوله (لقد أطلق بيكاسو صيحة قوية بأن كل الأشياء التي أحببناها في طريقها للموت) وتحققت نبوءته بعد أعوام قليلة فاجتاحت الجيوش النازية أوروبا، فيما قال عنها جوزيف أميل مولر: (هذه اللوحة وحدها تكفي لتبرير أسلوب الرسم الحديث، كما تكفي للبرهان على أن هذا الأسلوب يستطيع أن ينأى كثيراً عن المعقول دون أن يفقد قوته المعبرة). كانت غيرنيكا بداية لرسوم من نوع خاص تصف الخوف والهلع وتدين الحرب نفذها بيكاسو خلال الفترة التالية، وكان من أهم هذه اللوحات لوحة (المرأة الباكية) التي رسمها في العام ذاته، ثم لوحة (مذبحة كوريا) التي رسمها عام 1951 لإدانة جرائم الجيش الأميركي في الحرب الكورية، وهي تصور مشهداً في غاية القسوة لنساءٍ وأطفال في قمة الرعب وهم يواجهون عُزّلاً جنوداً مدججين بالسلاح، وقد أتاحت الظروف التاريخية والسياسية والثقافية لغيرنيكا أن تصبح أيقونة عالمية ضد الحرب لأنها لم توثق الحدث، وإنما قدمت رؤية إبداعية عنه، وربما لو أن بيكاسو وثق الجريمة بأسلوب واقعي لضاعت غيرنيكا في غياهب النسيان، وأعني اللوحة والبلدة والجريمة. جريمة غيرنيكا كانت أيضاً موضع اهتمام الفنان المكسيكي الفارو سيكيروس الذي قاتل في صفوف المدافعين عن الجمهورية الإسبانية، والذي رسم لوحة شهيرة وبالغة الأهمية في تاريخ الفن التشكيلي حملت اسم (صدى الصرخة)، وصوّر فيها طفلاً من أطفال غيرنيكا يصرخ باكياً بين أنقاضٍ وأشلاءٍ وبقايا معدات عسكرية مدمرة، وكما بيكاسو، فإن سيكيروس أطلق العنان لخياله لتقديم رؤية إبداعية عن حدث مأساوي، ولم يقم بتوثيق هذا الحدث بواقعية فوتوغرافية، وهو ما منح لوحته أهميتها الإبداعية وقدرتها الاستثنائية على البقاء. ما تعرض له أبناء (غيرنيكا) يكاد لا يذكر أمام ما تعرض له أبناء مئات الأماكن في سورية من إجرام قوى أكثر رجعية من (فرانكو) وحلفائه، لكن الزمن اختلف والهيمنة الاستعمارية على الرأي العام بلغت حداً لم يعد ممكناً معه لصرخة ضد الظلم والإجرام أن تُسمع، خاصة أنه صار من الصعب بلوغ قوة التعبير التي صارت تملكها الصورة الفوتوغرافية، فأي لوحة يمكن أن تكون أكثر تأثيراً من الصورة الواقعية لذلك الجندي السوري الجريح الأسير وهو يتحدى الإرهابيين القتلة دون خوف من فوهة البندقية بين عينيه؟ أو من تلك التي تسجل التقاء المقاتلين في لحظة فك الحصار عن سجن حلب ومطار (كويرس) وحامية دير الزور؟ أو تلك التي سجلت دموع التأثر الحارة لمراسل تلفزيوني لحظة تحرر نساء وأطفال خطفوا من بيوت كانت آمنة؟. لا أستطيع التنبؤ كيف ستلهم الحرب التشكيليين السوريين، لكن أستطيع القول إن الكثير مما أنتج بتأثير الحرب لم يستطع الخروج من دائرة الشائع: شكلاً وفكرة. www.facebook.com/saad.alkassem
|