وهكذا فإن إخراج الفن والفنانين من الجمهورية الأفلاطونية الفاضلة، لم يحط من شأن الفن، بل كان نقيصة بحق أفلاطون نفسه.
الفن ليس وهماً، وليس الفنانون مجرد تجار أوهام، فعلى الفن اعتمدت الشعوب في تطوير قدراتها وحتى علومها.
ماذا بقي من تاريخ اليونان ما قبل أفلاطون سوى عبقرية الفن الشعري لهوميروس وسوفوكليس وغيرهما؟ ألم يكن الشعر هو الوسيلة الأنجع التي استخدمها السوفسطائيون ليعبروا عن ما يجول في عقولهم؟
فيما بعد نحت الفلسفة نحو الفن، وسعت إلى دراسته بوصفه منظوراً معرفياً، وأصبح الإدراك الجمالي رؤية معرفية قادرة على فهم الوجود ومحاولة كشف كنهه، وبوسائل أنجع من الأدوات المعرفية الفلسفية المنطقية.
يقول ألكسندر إليوت: «وحده الخيال – ذلك الشباب الأبدي – يستطيع أن يجمع بين المثالي والحقيقي في قيادة عجلته، وهذا، في الفن أو في الفلسفة، هو انتصار الرؤيا الغنية بالخيال».
الفلسفة طارئة، ولكن الفن موجود مع وجود الإنسان، ويمكن النظر إلى رسوم الكهوف للتأكد من قيمة الفن في حياة الشعوب، ومكانة الخيال. ويرى الأنثروبولجيون أن رسوم الكهوف هي أدوات سحرية استخدمت في طقوس بهدف السيطرة على الطرائد والإيقاع بها، وهو ما يطلق عليه السحر التعاطفي. ومهما يكن من أمر، فإن هذه الرسوم تتمتع بجمال فني كثيف يعبر عن نشاط الإنسان في ذلك الزمن.
في هذه الرسوم يتبدى جوهر الفن، إنه هذا التعبير التلقائي عن روح الإنسان وسعيه إلى الخلود. وهذا السعي تم التعبير عنه جمالياً من خلال شحن الرسوم بعاطفة ملتهبة. وفيما بعد، أي بعد إنجاز الرسم، بدأ الإنسان يتأمل ما رسمه، وهنا بدأ التفكير الجمالي بالوجود والارتقاء.
ترجع مفردة «علم الجمال» إلى الأصل اليوناني، وتعني المعرفة الحسية، وكان أول من صاغ هذا المفهوم هو ألكسندر بومغارتن في القرن الثامن عشر، حيث ربط الفنون بالمعرفة الحسية، وجاء بعده هيغل ليستخدم هذا المفهوم ويوسعه.
هناك تناقض كبير في طبيعة الجمال، وهناك تضارب في تعريف الجميل، فمثلاً يقول هيراقليطس إن الجمال هو تعبير عن تناقض الأضداد، ومثال ذلك هو التراجيديا الإغريقية. وفي محاورة فيليبوس يقول سقراط إن الجميل هو المتناسب بوصفه درجة وسطى بين الرزانة والحكمة. وأما جمال الفن عند أرسطو فله دور ريادي في تطهير النفوس من الانفعالات الضارة. وأخيراً، يأتي إيمانويل كانط في نهاية القرن الثامن عشر، ليبدأ بحثاً عميقاً في فلسفة الجمال، وليصبح بحق مؤسس فلسفة الجمال في العصر الحديث.
يرى كانط أن الحكم الذي نصدره على الجميل يتميز عن الحكم العلمي والحكم الأخلاقي. والقضية الجمالية ليست أخلاقية ولا معرفية، وإنما هي قضية ذوقية مرتبطة بالاستحسان الذي نشعر به تجاه العمل الفني. فنحن حين نرى شيئاً جميلاً، فإن المبدأ يكون ذاتياً، وفي الوقت نفسه يتسم بالحس المشترك بين البشر.
لماذا تستمر الأعمال الفنية العظيمة في توهجها والتغني بها، وفي المقابل تنهار النظريات العلمية، أمام التقدم العلمي؟ هل بقي شيء من بطليموس؟ هل تأثرت الإلياذة بالفتوحات العلمية وحتى الفنية الأخرى؟
بعد كانط يوسع هيغل دراسة فلسفة الفن، ويرى أن مهمة الفن تكمن في التوفيق بين المادة والشكل، وهذا التوفيق هو ما يحقق درجة سمو الفن. وكذلك لا بد للمضمون الفني أن يكون صالحاً ولا يشتمل على شيء مجرد، إضافة إلى أن الشكل والجوهر ينبغي أن ينسجمان مع بعضهما البعض.
ويرى هيغل أن الفن هو جمال خالص، ولذلك فهو يسمو على الأغراض والرغبات، وعلى القوانين الأخلاقية، لأنه لا يجب أن يقيد بأي شيء آخر سوى نفسه.
وهكذا فإن علم الجمال، هو علم لا يمكن أن يخضع لعدد محدود من الرؤى، ولا يمكن أن ينحصر في مجموعة من الأفكار والتخمينات، لأنه قائم على الإدراك الحسي للفرد، وعلى ثقافته وتجربته الذاتية.