دون الحاجة إلى ترجمتها، فهي مقروءة ومفهومة وقادرة على السفر إلى كل العيون والآذان والأفئدة، فوق هذه الأرض، ذلك لأنها عصارة مشاعر وعواطف مبدعيها، تأخذ سماتهم الشخصيّة، لكنها في الوقت نفسه هي خلاصة تفاعل وجدانهم مع ما يحيط بهم من طبيعة وأفراح وأتراح وهواجس وطموحات، رافقت الإنسان منذ صيرورته الأولى وحتى اليوم. وهي في أشكالها ومسمياتها الجديدة، قد تبدو مختلفة، لكن في جوهرها تبقى واحدة، وعلى صلة وثيقة بقلب وعقل الإنسان، الذي لا زال يعيش نفس الهواجس والعواطف، ويرفع نفس التساؤلات!!
فنون الأطفال
تلتقي الفنون على جملة من الأهداف، وهي في مجملها، وبشكل عام تتوجه إلى روح المتلقي وعواطفه، إلا أنها لدى الأطفال تأخذ أهدافاً أخرى، فهي وسيلة هامة من وسائل الوصول إلى أفكارهم، والتعرف على مشكلاتهم وهواجسهم، الأمر الذي يجعل منها وسيلة مثلى لتربيتهم والتعرف على ما تموج فيه، عقولهم وأفئدتهم. إن لغة الأطفال التعبيريّة، بخطوطها وألوانها وحجومها، تعكس حياتهم، ولهذا يجب تشجيع مبادراتهم العفويّة، وإمكاناتهم الخلاقة، وما يشهده عصرنا الحالي، من تغيرات معرفيّة، وتطورات تقانيّة مذهلة، وضعنا أمام مسؤوليات جديدة، على صعيد تربية الأطفال، وتنمية قدراتهم ومعارفهم. وقبل هذا وذاك، التعرف بشكل صحيح وسليم، على قابلياتهم ومواهبهم، للأخذ بها، وتوفير أفضل الظروف لتنميتها وتصعيدها وبلورتها، من خلال تلبيتها ورعايتها وتحريضها، ومن ثم تمكينها من التمثل في أرض الواقع، باللغة التعبيريّة الصحيحة.
وهذا الأمر، يجب أن يتم عبر تحريض نزعة البحث والتجريب لدى الطفل، وإكسابه المهارات المطلوبة، ودفعه للتعلم الذاتي، وسط تربية بيئيّة ومهنيّة وسكانيّة وصحيّة نظيفة وسليمة. ولأن الفن اليوم، دخل الحياة من أوسع أبوابها، وطاول المسكن والملبس والأدوات والأثاث والسيارات والطائرات وجميع وسائل الإنتاج والدعاية لها، فإنه يحتاج إلى التخطيط والتصميم والابتكار، الأمر الذي يفرض القيام بتثقيف الفرد بصرياً وفنياً، لا سيما الأطفال واليافعة ضمن رياضهم ومدارسهم وجامعاتهم، وفق أسس ونواظم، تنسجم وبيئاتهم، وتتوافق مع التربيّة الفنيّة الحديثة التي أصبح لها دورها الفعال والهام، في تكوين المواطن الصالح، المتكامل الشخصيّة: نفسياً وعقلياً واجتماعياً.
التربية الفنيّة
والتربية الفنيّة للأطفال واليافعين وللناس عموماً، لا تقتصر على المدارس والجامعات، بل تتعداهما إلى الشارع والبيت والمؤسسة والمنتوج الصناعي والألعاب المختلفة وكل ما يحيط بالإنسان من بيئة شيئيّة، وذلك من خلال توفير لمسة جماليّة في مرافق حياة الناس وما يتعاملون معه من أشياء وأدوات يوميّة، عبر نشر الفن وتعميمه في كل مجال من حياتنا، وتعريف الأطفال والناشئة على مُبدعيه وسدنته، بهدف تحريضهم وتحفيزهم على الاقتداء بهم، وهذه المهمة الحضاريّة الملحة، يجب أن تبدأ من البيت والأسرة، ثم الروضة فالمدرسة الابتدائيّة والإعداديّة والثانويّة وصولاً إلى الجامعة.
على هذا الأساس، لا بد من التأسيس الصحيح والسليم، لتوفير تربيّة فنيّة حقيقيّة وفعّالة، ومن ثم رعاية حقيقيّة لمواهب أطفالنا في مجالات الفنون كافة. تربية قادرة على أن تجعل منهم أناساً متميزين سلوكياً ومعرفياً، ومن ثم، قادرين على تحديث أوطانهم وتطويرها وتجميلها.
إن التأسيس السليم لقيام تربيّة جماليّة صحيحة، ترعى أطفالنا، وتنمي قدراتهم واستعداداتهم ومواهبهم، تبدأ من الأسرة، وتنتهي مع المشرف أو المربي والمعلم والمدرس والأستاذ. أي تأهيل الاختصاصي القادر على التعامل مع الأطفال (ثم لاحقاً معهم وهم في طور النمو واليفاعة) وفق أصول علميّة تربويّة وفنيّة سليمة. ثم توفير لهم وسائل تعبير قادرة على استنهاض مواهبهم واحتضانها، بكامل حيويتها المتدفقة والتلقائيّة المعبّرة عن دواخلهم بالشكل الأمثل.
ومن الأهميّة متابعة التغيرات التي تظهر في تعبيرات الأطفال، خلال مراحل نموهم المختلفة، وتالياً عدم توجيهها إلى هذا الاتجاه أو ذاك، أو هذه التقنية أو تلك، بشكل قسري متعمد، وإنما ترك الحرية لهم لاختيار ما يرغبون من هذه الوسائل والتقانات، مع التأكيد أن بإمكان المشرف أو المعلم، توجيههم لاستخدام وسائل جديدة، قد تخدم التعبير لديهم، وتيسر ظهوره بوضوح ويسر في أعمالهم الفنيّة، لكن دون الإلحاح على كيفيّة التعبير، ذلك لأن نظرة الطفل إلى الطبيعة والأشياء حوله، تختلف عن نظرة الإنسان البالغ، فهي ليست ثابتة، بل تتبدل وتتغير وفق مراحل نموه.
وسائل مساعدة
من جانب آخر، لا بد أن نرسخ مبدأ احترام المشرف أو المعلم للفن، واحترام المحيطين بالطفل من الكبار (الأم، الأب، الأخ أو الأخت) للوسيلة التي يختارها الطفل، للتعبير عن نفسه، وتشجيعه على اجتراحها بحريّة كاملة، في بيئة سليمة وصحيحة. وعملية الاحترام هذه، يجب أن تسبق عملية تنمية مواهبهم الفنيّة، كما يجب تنمية ذائقتهم الجماليّة باستمرار، من خلال إعطائهم الفرصة للحديث حول أعمالهم وأعمال الآخرين، والإكثار من زيارتهم للمعارض والمتاحف، وتوفير فرص اطلاعهم على الكتب المختصة، إنما دون إشعارهم بتفضيل هذا الاتجاه على ذاك، وهذا اللون من الفن على غيره، بل ترك الحرية الكاملة أمامهم، للتفضيل والاختيار بأنفسهم، وفق ميولهم ونظرتهم الخاصة.
دور الأسرة
للأسرة الدور الرئيس، في رعاية مواهب الأطفال وتنميتها وتزويدهم بالثقافة، وترغيبهم في تلقي الفنون، من خلال تقديمها لهم في قالب مثير لافت لأنظارهم وعقولهم وأحاسيسهم، ثم تركهم يقبلون عليها من تلقاء أنفسهم. إذ أن وجودهم في بيئة زاخرة بالثقافة والفنون، يثير أذهانهم وأفكارهم، ويُحرض استعداداتهم، أما التذوق الفني، فهو مرتبط بالأشياء التي يتعلمونها، ما يستدعي القيام بتحليل المبادئ والأسس الفنيّة، والتعرف على إمكانيات الخامات والوسائل التي يستعملها الأطفال في تعبيراتهم، ومعنى الابتكار والمشكلات المتعلقة به.
بمعنى أنه لا بد من التوقف مطولاً، عند الجوانب التي تتعلق بطبيعة النشاط الفني الإبداعي، والنظر إليها على أنها شكل من أهم أشكال التعبير لديهم، وقد أثبتت الوقائع والدراسات هذه الحقيقة، إذ تبين للدارسين أن خصائص فنون الأطفال، تؤكد أنهم يصوّرون الأشياء كما يدركونها، لا كما يرونها، الأمر الذي يستدعي من المشرف على نشاطاتهم هذه، التركيز على تأثيرات ممارسة هذا النشاط وليس على ما أنتجه الطفل ومدى فنيته، ذلك لأن نشاط الفنون الجميلة هو نشاط عملي، يتم فيه تشغيل أكثر أعضاء الحواس اجتماعيّة عند الأطفال وهما: اليد والعين. ولكي يتم الحصول على أعمال فنيّة طفليّة مفعمة بالصدق، وثرية بالتعبير عن حياتهم، يجب توفير الحرية الكاملة للأطفال، أثناء قيامهم بممارسة النشاط الفني.
مهام عديدة
إلى جانب كون فنون الأطفال، عاكسة حقيقية لحياتهم بكل تلاوينها وإرهاصاتها، فهي أيضاً، تساعدهم على الوصول إلى حالة من التوافق العضلي الحركي، وخلق بيئة نظيفة تطول الأطفال أنفسهم، إضافة إلى مكان العمل وأدواته، كما تمنحهم الجرأة في مواجهتهم للمساحة البيضاء، والاعتماد على النفس في إنجاز مراحل العمل الفني كافة، وتزودهم بالثقة القادرة على أن توفر لهم إمكانية التواصل بينهم وبين المربي.
بناءً على ما تقدم، فإن فنون الأطفال، تحمل مهام عديدة. فهي عاكسة لحياتهم، ومسعفة: نفسياً وخيالياً ومعرفياً لهم خلال نموهم، ما يتطلب تذليل العقبات التي تحول دون نجاح عملية التربية الفنيّة عندهم ومنها: إحجام بعض الأطفال عن التعبير الفني، بحجة عدم قدرتهم على القيام بذلك، وعدم تفهم الأسرة للعمل الفني وتقديرها له، وخوف الطفل من إنتاجه الفني، أو من مدرسه.
والحقيقة، فإن مقولة (الفن لا يطعم خبزاً) لا تزال تطل برأسها في بيوتنا، حيث تستخدمها العديد من الأسر، كفزاعة لإبعاد أطفالهم عن ممارسة الفنون، ودفعهم عنوة، إلى تخصصات علميّة تطبيقيّة، تطعم برأيهم خبزاً، ضاربين عرض الحائط، فيما إذا كانت هذه التخصصات تنسجم وتتوافق وميول واستعدادات أطفالهم أم لا!!