بالدعوة إلى مفهومين آخرين، مفهوم «الواقعية» ومفهوم «ثقافة السلام». ولإكساب هذه المفاهيم الجدارة اللائقة أخذت هذه المفاهيم توصف بـ «العلمية والعقلانية».
والمبرر لهذا كله جاهز، وهو موازين القوة في «المنطقة» أي إن القوة، وليس العلمية والعقلانية، هي المحدد الحاكم لما هو واقعي، أو أن القوة، هي المعيار الأساس للعلمية والعقلانية والواقعية بغض النظر عن الحقوق والمبادئ والقيم. وعلى نحو ما أصبح الحديث عن الوطن العربي والعالم العربي والأمة العربية مكروهاً في ظل الترويج لدعوة «الشرق أوسطية» التي اقترنت بالدعوة إلى السلام، أصبح مصطلح «المنطقة» هو الأكثر قبولاً وانسجاماً في دعوة «الشرق أوسطية» لأنه يقصر علاقة الدول العربية ببعضها البعض على علاقة «الجوار الجغرافي» فقط من دون غيره من الروابط وخاصة رابط الهوية القومية العربية الحضارية،كضرورة للتمهيد لجعل «إسرائيل» طرفاً طبيعياً غير معزول عن غيره من الدول المجاورة، أصبح أيضاً مفهوم «المقاومة» مكروهاً، وأصبحت ثقافة المقاومة محرّمة لأنها تتعامل على أرضية الحقوق والمبادئ والقيم، ولأن المطلوب هو تكريس مفهوم «القوة» كمحدد لتأسيس العلاقات والتفاعلات، أي أن تطالب بحقوق بقدر ما لديك من قوة، ولأن مصادر القوة العربية مبعثرة ومتصارعة، فإن القوة «الإسرائيلية» المدعومة أميركياً هي الأرجح والأقدر على فرض الإرادة، لذا بات مطلوباً من العرب قبول ما تريده «إسرائيل» وترضى عنه أميركا، وأصبح هذا يوصف بالواقعية والعقلانية وغيره يوصف باللاواقعية، وبالذات إذا كان يتحدث عن مقاومة أو ثقافة مقاومة.
وما يمكن اكتشافه عند الغوص بالنظرة التحليلية من سطح الأحداث، إلى أعماقها، هو تلك الفجوة التاريخية التي تتسع، بين وضع الصراع في مجال السياسة الرسمية لأنظمة الحكم العربية، ووضع الصراع نفسه في المدى الواسع للبيئة الشعبية العربية من المحيط إلى الخليج . لقد ورط النظام العربي الرسمي نفسه، وورط معه المنطقة العربية بأسرها، في حالة إلغاء للإرادة السياسية العربية، ولروح مقاومة المخططات الخارجية الزاحفة إلى المنطقة، سواء أكان شكل هذه المقاومة عسكرياً أم سياسياً أم دبلوماسياً أم إعلامياً أم ثقافياً، وقبع هذا النظام العربي العام في موقع سياسي جامد لا يتحرك، ولا يفعل سوى توهم أن يأتي حل الصراع، منحة وتعطفاً وتنازلاً من الحلف الاستراتيجي الأميركي- الصهيوني، أي من الطرف الآخر من الصراع.
لنلق نظرة على المشهد العام للصراع في سنواته الثلاث الأخيرة، منذ عام 2006 وحتى يومنا هذا، يجب أن يكون المرء كامل السذاجة السياسية حتى يقتنع بأن هدف «إسرائيل» في إطلاق عدوانها الشامل الكاسح على لبنان في صيف 2006 كان استرداد الجنديين اللذين أسرتهما المقاومة، وذلك على الأقل بدليلين اثنين: أن الحرب توقفت، ولم تستعد «إسرائيل» جثث الجنديين الأسيرين إلا بعد ذلك، وبالطريقة التي حددها الأمين العام لحزب الله منذ البداية (التفاوض وتبادل الأسرى). والثاني أن وزيرة خارجية الولايات المتحدة السابقة كوندوليزا رايس سارعت منذ الأيام الأولى للعدوان إلى الكشف العلني عن الهدف الحقيقي والمحرك الرئيسي للعدوان الإسرائيلي: «استيلاد شرق أوسط جديد».
كذلك، يجب أن يكون المرء كامل السذاجة السياسية، حتى يصدق أن سبب العدوان الإسرائيلي الوحشي على غزة (2008-2009) كان مجرد الرد على بضعة صواريخ بدائية أطلقت على مستوطنات في جنوب «إسرائيل».
فبين العدوان على لبنان والعدوان على غزة، اكتملت صورة الشرق الأوسط الجديد التي كانت تبشر به السيدة رايس، إنه شرق أوسط خال من أي نزعة عربية إلى المقاومة. المهم خنق الرغبة في المقاومة، وعدم إعطاء هذه الرغبة أي فرصة، ولو محدودة، بالقدرة على الصمود، حتى لا يستفحل أمر هذه المقاومة، فتلتحم بالوضع الشعبي العربي العام، الذي أثبت على مدى ثلاثة عقود، عدم اقتناعه النهائي بمنطق الأنظمة العربية الرسمية في مسيرة الصراع المفتوح. إنه شرق أوسط جديد تتكامل فيه انهزامية الشعوب مع انهزامية الأنظمة العربية.
طبعاً، في مقابل فشل خطة الشرق الأوسط الجديد الأميركية- الإسرائيلية هذه، لم يتحول الأمر بالضرورة، فوراً وآلياً، إلى ولادة الشرق الأوسط العربي المرجو والبديل. ولنلاحظ أيضاً أن فرص تحول مسيرة الصراع ليست مرهونة فقط بالفشل الواضح في كسر إرادة المقاومة، بل هي مرهونة أيضاً بذلك الجنون المتصاعد المسيطر على قيادة الحركة الصهيونية في «إسرائيل» والذي يصر خلافاً لرغبة السيد الأميركي، على استحالة تحول الكيان الصهيوني إلى جزء طبيعي من هذه المنطقة من العالم، وخاصة على صعيد شعوبها.
وعليه، فالرسالة باتت واضحة للجميع، وهي أن أي تراجع أو تنازل تكتيكي أو جزئي، أياً كان الهدف منه، سيبقى مرفوضاً، ولن يحقق أهدافه، فصراعنا مع العدو باعتباره «صراع وجود» باعتراف العدو وإعلامه، لا يقبل أنصاف الحلول، إما أن تكون مقاومة عن حق وجدارة، وإما أن تكون واقعياً، أي أن تنسى الحقوق وتقبل بحكم وإرادة توازن القوة.