في خوابي الأيام الطيبة وبال الطيبين .. هل تعرفون هذا الحنون الباقي على كتف السنين كغابة ورد وغفو على قارعة درب الحياة وفي منحدرات وجد الأرض والناس؟ هل تعرفون وتبصرون ؟ أم تاهت بكم دروب العيش، وضعتم عن بروق أعماركم كما يضيع الرعيان عن أشواقهم، عندما يهدرون شجاعة الاهتداء؟
بحثنا عن البصر والبصيرة، وتقدمنا بأوراق ثبوتية، تبين أننا أبناء حارات الينابيع الصافية.. تعذبنا وسعينا وركضنا في جهات الأيام وأعالي الجبال والسهول ليكون بمقدورنا النظر إلى البعيد ومشاهدة غابات الضوء.
نصغي إلى سؤال الوجدان في اليوم الواحد عدة إصغاءات، ونفرح بحديث شوق أو سيرة الجيران المشتاقين.. ويستدين المحتاجون أشواقاً من الأغنياء بأشواقهم.. ولا عيب في هكذا ديون، مادام المحتاجون أوفياء ومخلصين لوعودهم، الريح تلهو بأعصاب الوردة التي على الشباك، وعصافير سماء البلدة تنقر حبات توق وشمس وتغريد..وأم جورج قرية أحاديث وذكريات ومكاشفات سارة بينها وبين وجدان العمر والأقرباء والأصدقاء.
منذ عشرين حباً ودرباً رأيتها تتأبط حديث وحكايات غابة الورد، وتمسك بيدي سنواتها عهود البساتين والنواطير والأقرباء والينابيع .
تحمل في تعب السنوات زخم وعزم الأماني، التي تتمنى لها البقاء على قيد الألفة والنضارة.
تتجاوز عثرات الأولاد وفوضى الفشل والجشع والغنى الطفرة، وتمشي بخطوات صغيرة إلى حيث رصيف الحب المقابل لرصيف الخيبة والقناعات المشلّعة والمخلعة مثل أبواب الخشب المهملة.
تخلت عن غابة الورد، أو لعلها لم تعثر على خطوات كافية للصعود صوب الجرد، الذي ينبت في صدوره وصخره الورد وأسئلة العطر ومعاهدات الشذا .
أين الغابة والورد والجيران والأقرباء ووثائق شذاهم وأوراق طيبتهم الثبوتية؟
قل: أين ضاعت وغابت الطيبة، التي كانت وردة الوردات وغابة الغابات؟!
قلّ وجدان الناس فيئست الأرض ويبست الغابة.. ونبع الحارة الأولى فقد شبابه ونخوة جريانه، وقلت نباحة ضفتيه وفصاحة شجراته عندما تصارع أولاد الأقرباء على الميراث والدكاكين، التي بناها عمر الآباء وسعيهم.. تصوروا أن جميع القريبين فقدوا درايتهم بقراباتهم.. والجيران مثلهم فقدوا.. والأصدقاء قد يصيرون من المفقودين.. هل تقبل الأيام بغير لذاذات اللقاءات والصفاء ؟!
والتفتت أم جورج المعمرة الجسورة والعازمة على الحياة، والتفتنا معها إلى النبع فوجدناه بخيلاً ومتأسفاً على شبابه الضائع وذاكرته المهجورة.
أشارت بعينيها وصوتها وكلمات ملامحها، فأضفينا وقرأنا ما يدور في وجدانها ووجدان النبع وغابة الورد المتوقفة عن أداء واجب الورد والحب: البشر لم يبقوا طيبين وصالحين للألفة واللقاءات الحنونة؟
إنسان الحياة تؤلفه حكمة حبه وصفائه.. وإنسان اليأس واليباس تؤلفه لحظات الكذب.. إنسان يكذب لا يساوي الحياة.. وتساءل الكثيرون: هل تكون أم جورج آخر حكايات الوجد الجيد.
في بلدة بلودان العالية، التي كانت تخيط بصوف الألفة عباءات البرد والشتاء؟! ومثلها أمهات وحكايات وبلدات؟!
إلى آخر حب لقيناها عنده وفي جواره ظلت تقول أم جورج:
شهادة ميلادي موجودة حيث يوجد النبع والصفاء ولا أنسى كم خبأت بيوت بلودان وكم (مونت) من بساتين التفاح واللوز والجوز والعنب وعصير الأحباب والأصحاب والجيران..
اعتصرت كروماً وجراراً عذبة وحلوة من عرائش حب الآباء والأبناء .
واليوم تعتصر كروماً من الأكاذيب . لماذا ولماذا؟!؟
بقليل من ألفة أيام حبنا عاشت بلوداننا الأولى الحنونة وعشنا معها وبها وفيها، وعاش معنا أصدقاؤنا وأهلنا والجيران من المدينة والبلدات..
هل نكتفي بالعمارات الضخمة والجوع الكبير وقلة الحب؟
وتمشي أم جورج وتقبض على كلمات اشتياقها وتخبر الأولاد.
تخلوا عن عثراتكم وحفر دوربكم قبل فوات الأوان.. لابد لكم وللأقرباء وللجميع أن ترجعوا ويرجعوا إلى حيث غابة الورد العالية.. وإلا فالأمور في سوء شديد؟!؟