وأصبح أكثر واقعية إمكانية عزل إسرائيل بوصفها العامل الرئيسي في إجهاض أي تقدم ممكن لهذه العملية التي يتوقف على نجاحها أمن واستقرار ليس الشرق الأوسط وحسب بل والاستقرار العالمي إلى حد كبير، بل ويتوقف على نجاحها سمعة ومكانة الولايات المتحدة الأميركية في الساحة الدولية إضافة إلى الساحتين العربية والإقليمية بوجه خاص.
ورغم تصريحات أوباما الإيجابية على الأقل من الناحية الشكلية بهذا الشأن إلا أن نواياه بغض النظر إن كانت صادقة أم لا فإنها سرعان ما اصطدمت بجدار المنع الإسرائيلي والاستهتار الإسرائيلي بمسؤولي الإدارة الأميركية الزائرين الدائمين لعدد من دول المنطقة وآخرها زيارة بايدن نائب الرئيس الأميركي الذي وجد نفسه في وضع لا يحسد عليه بإعلان إسرائيل مشروع بناء 1600 مستوطنة جديدة في الضفة الغربية و50 مستوطنة في القدس الشرقية، وكأن إسرائيل تريد إفهام حليفها وشريان حياتها الأميركي بأنها لا تأبه لأي طلب أميركي ولو كان غير جاد وغير مجد في الجوهر بتجميد الاستيطان لفترة ثلاثة أشهر فقط ريثما يتم استدراج النعامة العربية إلى طاولة مفاوضات غير مباشرة أم مباشرة، أقرت بالأكثرية في قاعة اجتماعات وزراء الخارجية العرب المكلفين بمتابعة عملية السلام والمبادرة العربية رغم أنهم غير مخولين بذلك من الناحية الدستورية.
إسرائيل تدرك تماماً أن واشنطن لا يمكن أن تخطو متجاوزة الخطوط الضامنة لما تسميه واشنطن أمن إسرائيل وتزويدها بما يلزم من عتاد وسلام وأموال لإبقائها قادرة على التمرد على صاحبها الأميركي نفسه، وحيال التزام أميركا بهذه الخطوة تذهب كلمات هيلاري كلينتون الغاضبة على الإهانة الإسرائيلية التي حسب قولها تمس هيبة أميركا وسمعتها أدراج الرياح دون أي تأثير على مضمون وجوهر العلاقات الأميركية الإسرائيلية والعرب بمعظمهم، والمقصود بمن فيهم أصدقاء أميركا يعرفون هذه الحقيقة بكل أبعادها الناسفة لعملية السلام.
ولو تناولنا جل ما تريده أميركا من إسرائيل هو تجميد الاستيطان مؤقتاً لإعطاء غطاء لمن يسعى للمفاوضات دون أي ضمانات من إسرائيل، وبالتالي ستبقى المفاوضات مجردة من أي آفاق واقعية لنجاح هذه المفاوضات بالتوصل إلى السلام.
فأمريكا ومنذ البداية أرادتها اتفاقيات ثنائية ومنفردة تخدم عملياً إسرائيل ومشاريعها في المنطقة ولكنها لا يمكن أن تحقق الأمن والاستقرار، وكانت سورية تدرك منذ البداية ومعها العديد من دول العالم آنذاك ولاسيما الاتحاد السوفييتي في حينه، أن الاتفاقيات الثنائية كاتفاقيتي «كامب ديفيد» و «أوسلو» وغيرها لن تؤدي إلا إلى مزيد من التعقيدات والمصاعب في حل الصراع العربي الإسرائيلي بشكل شامل وعادل، ولو كان الوضع غير ذلك لما عانت المنطقة وعلى امتداد الثلاثة عقود الأخيرة من الحروب عقب تلك الاتفاقية المشؤومة.
ويصبح اليوم الوضع أكثر وضوحاً بأنه من غير الممكن من خلال التسويات والصفقات الثنائية تحقيق التسوية الشاملة، والجوهر في هذه التسوية الشاملة يتلخص بإعادة إسرائيل الأراضي العربية المحتلة في عدوان حزيران 1967 إلى العرب وإقامة علاقات عادية تحول دون جولات جديدة من الحروب، وكان هذا المبدأ أساسياً في مؤتمر مدريد 1991، وفي هذا الإطار تعتبر مسألة إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة التي يعلن الكبار من دول العالم حتى أصغرهم بأنه حجر الأساس في إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي شريطة أن تكون القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية وكذلك ضمان حق العودة وفق القرار 194 الصادر عن مجلس الأمن الدولي.
ولم يكن مستغرباً أن تفشل الولايات المتحدة في التمسك بزمام المبادرة لحل الصراع في الشرق الأوسط في مؤتمر أنابوليس رغم ما تبديه الإدارة الأميركية اليوم من اهتمام لتسوية الصراع، ولكن أميركا محكومة بعقلية لا تختلف عن عقلية حكام تل أبيب بالنظرة المتناقضة فهي تقول شيئاً ولا تفعل أي شيء يخدم ما تقوله بخصوص السلام.
وهذا الموقف الهش الأميركي والمتناقض بين ما هو معلن و ما هو سلوك واقعي أعاد بالضرورة المناخ إلى مرحلة الحرب الباردة واصطفاف القوى إقليمياً ودولياً على أساس المجابهات الكبرى.
فبرزت روسيا الطامحة لإعادة الدفء كما يقال إلى علاقاتها التقليدية مع الدول الصديقة التقليدية لها في المنطقة بموقفها المطالب بإعادة الأرض المحتلة العربية إلى اصحابها العرب وفق قرارات مجلس الأمن.
ورغم التأرجحات في مواقفها حيال الملف النووي الإيراني إلا أنها اندفعت لعقد العديد من الاتفاقيات مع إيران متعلقة بتزويد الأخيرة بمنظومات صواريخ «إس-300» وبناء مفاعل بوشهر للطاقة النووية السلمية وتطمح لفتح مجالات لاستثماراتها في إيران وغيرها، وكذلك في مجال استخراج وتصنيع ونقل مصادر الطاقة واندفاع روسيا إلى الشرق الأوسط لعقد اتفاقيات جديدة مع أصدقائها التاريخيين وخاصة سورية التي كانت دائماً تؤمن بدور روسي إيجابي في عملية السلام، وهذا الوضع يفتح آفاقاً لإيجاد حل للصراع أصبحت معالمه ومبادئه وثوابته واضحة للجميع، وجل ما تحتاج إليه هو أن تكون الأطراف الدولية الكبرى وخاصة الولايات المتحدة على قدر من الإرادة للضغط على من يعوق التوجه الفعلي نحو حل الصراع العربي-الإسرائيلي وربما بدأت إسرائيل رغم كل ضجيجها وقرقعتها للسلام تدرك بأنها لم تعد قادرة على فرض ما تريده على العرب لا من خلال الحروب ولا من خلال المفاوضات بما يتعارض مع حقوق العرب المشروعة، المهم أن تقتنع أميركا وحلفاؤها بأنه ولكي تصبح إسرائيل طرفاً في عملية السلام لابد من اتخاذ مواقف أكثر جدية تجاهها، وفي هذه الحالة يمكن إرغامها على الجلوس على طاولة المفاوضات المفضية لنجاح عملية السلام في المنطقة، وفي هذا مصلحة لأميركا وخاصة بعد تجربتها المريرة في العراق وأفغانستان ربما تحسست الوضع بحقائقه القاسية بالنسبة لها وهي أنه من غير الممكن إيجاد أي حل عن طريق استخدام القوة الغاشمة العدوانية، فقوة المقاومة ومعسكر المقاومة سحب من إسرائيل زمام القدرة على فرض ما تريده من شروط مجحفة بحق العرب.