تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


فــــي أقلامهــــم أمومــــة فاخـــــرة أو قاهـــــرة

ثقافة
الجمعة 19-3-2010م
هفاف ميهوب

هذا ما قالته الكاتبة الأمريكية-الصينية (بيرل بك) التي ولدت في إحدى ولايات فرجينيا الأمريكية ولوالدين متفاهمين ومتحابين قاما بأخذها والرحيل إلى الصين حيث كان والدها يعمل مبشراً ما جعلها أمريكية المولد-صينية النشأة.

لم تفكر (بيرل بك) يوماً بالكتابة، فالدراسة في الجامعة ومن ثم التدريس أخذا كل وقتها لتقوم وبعد رحيل والدتها التي عانت طويلاً من المرض بمحاولة تصويرها بالكلمات، تلك التي تحولت إلى روايات فيها من الأحاسيس والصور، ما وصمها بالأمومة الفاخرة.‏

ننتقل إلى حالة أخرى وهي لا تشبه حالة الكاتبة (بيرل) إنها حالة الشاعر الفرنسي (رامبو) الذي ولد في جو من المشاحنات المستمرة بين والديه، ما أدى إلى انفصالهما لتتصرف به والدته كلياً فتغرس في نفسه التعاليم المسيحية وحب التقشف وبعناد وقسوة وتعصب للتقاليد.‏

كل هذا حوّل حياة الصبي إلى شبه محراب فجر لديه الأجواء الروحية والعاطفية وبما جعله بداية شديد التعلق بوالدته التي ومن خلال تماديها في القسوة وعنف التربية دفعته للتحدي والتمرد والانطلاق إلى عوالم الحلم وبشهوة حب التشرد الذي رافقه طوال حياته.‏

هذه العوالم جعلته وبعد أن كبر في السن يحن إلى قصص الخيال مفكراً بالتحرر من السجن الذي يعيش فيه ودون أن يجد فسحة للحرية إلا في غرفته العالية ووراء قضبان نافذته حيث ينسج الكثير من القصص.‏

شيئاً فشيئاً بدأ بالتمرد والشغب والسخرية محاولاً الانتقام من جبروت أمه التي ألجمت جموحه ليدون في كتابه المعروف (إشراقات) كيف قامت ذات يوم وجدته فيه يقرأ في كتاب يتنافى مع التعاليم الكاثوليكية بحبسه في سقيفة المنزل طوال النهار وهو ما اعتبره أول عذاب يتعرض له في سبيل حرية أفكاره.‏

إنها المهزلة الإنسانية التي دفعته للرحيل عن المنزل ليجوب بعدها العالم متشرداً ضائعاً وشاعراً لكن من أشهر الشعراء الذين لم يكن لوالدتهم إلا الأثر الجارح في أنفسهم.‏

إذاً أتراها الرغبة بالامتلاك أم هي العاطفة المجنونة؟ تلك التي دفعت والدة (رامبو) للتسبب في شذوذه اجتماعياً وعبقريته شعرياً؟ هذا الشذوذ الذي جعلها ورغم شهرته العالمية تنقم عليه وترفض رؤيته حتى لحظات احتضاره.‏

ها هو مثال آخر وهو الأديب الفرنسي (مارسيل بروست) الذي كان شديد التعلق بوالدته بسبب اهتمامها الزائد به وحنوها عليه بل والتستر على شذوذه وإلى الدرجة التي رفض فيها المدرسة الداخلية لأنها حرمته من مشاهدتها ما انعكس على صحته ودراسته وزاد من نوبات الربو التي رافقته طوال حياته.‏

إنه وبعد أن نال شهادة الفلسفة رفض الانصياع لرغبة والده بأن يلتحق بالسلك الدبلوماسي وذلك خشية أن يبتعد عن والدته مرة أخرى، ليصاب وبعد أن ترحل عن عالمه وفي الغرفة ذاتها التي عرفا فيها طفولته وطقوسه الكتابية بانهيار عصبي أدخل بسببه إلى المستشفى.‏

لقد فقد كل شيء في حياته لطالما كانت من علمه القيم والفضائل والسلوك السوي بل لطالما اعتبرها الجمال الذي عوضه عن بشاعة شكله، يقول بعد رحيلها: «الآن فقدت حياتي هدفها وجمالها ومحبتها».‏

لكن وإذا كان (بروست) قد أصيب بلوثة فقد والدته فإن الأديب الروسي (دوستويفسكي) قد أصيب بفراغ حاول أن يشغله من خلال أخته الكبرى التي عجزت عن تقديم ما يسعى إليه كاملاً ذلك أن والدته ومثلما والدة (بروست) كانت شديدة العناية والاهتمام به وأيضاً لاعتلال صحته ومشكلته مع داء الصرع الذي أصيب به مبكراً.‏

أيضاً هناك (شوبنهور) فيلسوف التشاؤم وهو لقب فاق شهرته ولأسباب أولها وأشدها تأثيراً في كتبه وحياته والدته التي دفعته يوماً عن درج منزلها بسبب غيرتها من شهرته التي غطت على شهرتها ككاتبة قصة ما أدى إلى مغادرته منزلها حاملاً كل الحقد عليها وعلى الأنثى عامة.‏

ليس هؤلاء وحدهم من كان لأمهاتهم الدور الأكبر في تغيير مجرى كتاباتهم، فغالبية الأدباء والشعراء والفنانين تأثروا بوالداتهم ماجعلهم إما متفائلين أو متشائمين منغزلين أو اجتماعيين وأيضاً مجانين من الدرجة الإبداعية أو حكماء من الدرجة الروحانية.‏

نعم حكماء بدلالة الشاعر والحكيم الهندي طاغور الذي كان لوالدته الكثير من الأثر في تنشئته الروحانية والخلاقة وبما سبب له بعد رحيلها الشعور بالألم والغربة مثلما اضطره للبحث عما يعوضه عن الدفء الذي منحته إياه، ذاك الذي لم يجده إلا في أحضان الطبيعة ولدرجة أنه قال: إنه وجد فيها أمه الثانية أمه التي جعلته صديقاً للبيئة و شاعراً وحكيماً أشعل شمعة واحدة لتنير الكون إنها روحه.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية