ألم تتيح قصص الرسوم التي كانت تنشرها مجلة استيريكس في فرنسا الفرصة لاكتشاف يوليوس قيصر وتان تان أو الكابوني ؟ ولكن لا يزال غير كاف تأثر وانبهار الشبان أمام سطوة الصورة لضمان أن يكون أي عمل يجسده الفن التاسع هو المفضل لاكتشاف الماضي . بل على العكس من ذلك ، نظراً لأنه ، وفي السياق الإفاضة في اصدار قصص الرسوم ، التي تزيد عن 4000عنوان في العام الواحد ، يتماهى التاريخ ويختلط بين ما هو حقيقي وما هو خيالي .
وكانت منذ زمن بعيد تشكل قراءة ( الكتب المزينة بالرسوم ) مصدر خوف وقلق الكبار على ابنائهم . ولهذا فقد تجلى تجاوب الناشرين من أجل فئة الشباب وتعاملها مع هذه المخاوف في حصر اصداراتها بأعمال ذات توجه تربوي وتثقيفي. وضمن هذا السياق ، أقدم السيناريست ايف دوفال ، مع مطلع أعوام الخمسينات، على التوقيع مع صحيفة تان تان على كتابة 1500 حكاية تاريخية واقعية . حيث شكلت أربع لوحات سرداً كاملاً مع كل اصدار أسبوعي للصحيفة ، تتضمن حياة العلماء العظام والعسكريين وحياة القديسين ، أي مكتبة تحوي قصص الشجاعة والمثالية ، والتي يعاد طبعها حالياً بشكل رائع .
ولا زالت صحيفة ( سبيرو ) مدينة في نجاحها للحكايات الجميلة للعم بول التي هدهدت أجيالاً كاملة من القراء . بيد أن الأمور قد تغيرت منذ أربعين عاماً ، فمع مطلع أعوام الثمانينات ، أصدر جاك غلينا ، وكان حينها ناشراً حديثاً مجموعة (عاش ) التي عملت على تجديد النوع التاريخي من خلال حقن جرعة من الخيال مع العصر المروم تسليط الضوء عليه .
ومنذ ذلك الحين انطلق وحلق عالم قصص الرسوم وازدهرت صناعته ، ولاسيما مع ازدهار جنس الخيال العلمي والفنتازيا . وغدا معها التاريخ ، شيئاً فشيئاً خزان للديكورات والأزياء والرموز والمغامرات والكليشيهات . وانفلتت قريحة ومخيلة الكتّاب ، والتي جاءت أحياناً عن جهالة ، ما أدى إلى خلط المعالم التي تفصل بين ما هو مختلق ومبتكر وبين ما هو صحيح وأصيل . وفي وقتنا الراهن أدى الناشر ديلكور عملاً مجلياً في هذا الخط مع اصداره مجموعته ( حكاية الحكايات ) التي يقول عنها: إنها تهتم ( بالعوالم التاريخية ) بهدف ( ابتكار قصص جديدة أو بمعنى إعادة اكتشاف التاريخ) وهو المطلوب . وجاءت سلسلة من قبيل (عرش من طين ) لتعيد بشكل مثير للاهتمام اكتشاف تعاقب حرب المئة عام .
ومع الطفرة الكبيرة في العناوين ، في أيامنا هذه ، لا بد للناشر من التمييز بعناية فائقة من خلال مقاربتهم للتاريخ بين ما هو حقيقي وبين ماهو عارض ودخيل .
والمثير للدهشة أكثر هو عمل الدكتور في التاريخ رينالد سيشر ، والذي يسعى عبر دار نشره الخاص وبوسائله وبأسعاره الزهيدة ، ودون تلقي دعم من أي وسيلة إعلامية إلى ( تعميم كتبه من خلال الصور ) . ولذلك فقد استخدم أسلوب قصص الرسوم كآداة ليصل إلى جمهور واسع ، وجمع فيها كل معرفته وعلومه، مجازفاً بصفته أكاديمي ، وشكلي في بعض الأحايين . وقد لقي كتابه بعنوان (تاريخ بريطانيا ) والصادر في عشرة أجزاء نجاحاً قوياً ، وليكون شاهداً على ترقب الجمهور ، لإصدارات من هذا النوع لدار تريومف ، تلك الإصدارات التي تنضوي تحت تقاليد تعود إلى أعوام الخمسينات مع نشرها كتب عن ( تاريخ شخصيات معروفة أو يجري التعريف بها ) وتلك بادرة غير مسبوقة ، من وجهة نظر مبتكرها . ومنها كانت مجموعته ( رياح التاريخ ) .
وتماشياً مع هذا النهج الذي بدأه جاك مارتن ، مبدع شخصية أليكس والمغرم بالقديم ، كشف الناشر البلجيكي كاسترمان عن انجذابه نحو القصص المتجذرة في الماضي . وتحت شعار ( جاك مارتن يقدم ) صدرت كوكبة من العناوين المتفاوتة، ، التي تبحر في كافة العصور وفي كل الخطوط ، والمفاجأة كانت مع صدور كتاب مصور يحكي عن نابليون بونابرت . وثمة كتّاب آخرون تميزوا في هذا النوع من الإصدار مثل هوغو برات مع كتابه ( حكايات الحرب) وأسماء أخرى واصلت جولتها في التاريخ الأوروبي . وقد توخى الناشرون، أمام تحدي كبير يواجههم مقاربة هذه القصص التاريخية حسب العقلية والذهنية المعاصرة ، أي كتابة التاريخ مع الابتعاد عن الخداع . وهنا يمكننا تلمس هوية قصص الرسوم. وحيث أن الأداة السردية تفرض استخدام السرد الدرامي للرواية ، وتحريك الانفعالات وترجيح تقمص القارىء للشخصية الرئيسة في الرواية ، كان لا بد من حسن الاختيار ، أو اللجوء إلى التبسيط . ولكن يبقى أمام كل مجموعة تصدر من هذه القصص التاريخية التي تعتمد على الصورة والوسائل البصرية سؤال أخير ومحدد: من يستفيد من الآخر : هل التاريخ يخدم القصص المصورة أم القصص المصورة هي التي تفيد التاريخ ؟ .