واليوم (6 تشرين 1973)، يبدأ عمري.. واليوم فقط ذهبت إلى مديرية الأحوال المدنية، وأريتهم صك ولادتي التي حدثت في مستشفى عسكري نقال.. يتحرك مع المقاتلين في سيناء والجولان، فاعتبروني طفلاً شرعياً، وسجلوني في دفتر مواليد الوطن، لاتستغربوا كلامي، فأنا ولدت تحت الطوفان، والجسور العائمة التي علقها مهندسو الجيش المصري على كتف الضفة الشرقية، وخرجت من أسنان المجنزرات السورية التي كانت تفترش الصخور في مرتفعات الجولان..
بهذه الكلمات المؤثرة، يوقع الشاعر الكبير نزار قباني، ليترك إمضاءة الخالد على جدران القلوب، وصفحات الأوطان، نقشاً مرمرياً على قلعة سورية الشامخة التي لا تُهزم...
لقد مثلت الحروب موضوعاً من أهم مواضيع الأدب، ليس فقط الأدب بل كانت الحرب أحد أسباب ظهور ما سمي بأدب الحرب، حيث يرتبط الأدب في مواطن عديدة بالحرب. الكثير من الأدباء والكتاب عايشوا حروبا وعانوا ويلاتها، بل إن البعض شارك فيها كجندي أو كمراسل حربي، وهناك أدباء وكتاب عاشوا الحرب بتفاصيلها ومآسيها، وكتبوا عنها وأثرت في أدبهم تأثيراً ملحوظاً وهاماً فقد كتب «شلوخوف» مأساة الشعب الروسي في رواية واحدة «الدون الهادئ» ذات الأجزاء الأربعة والتي استغرق في كتابتها حوالي 12عاماً, حيث عايش الأحداث المأساوية التي عايشتها روسيا وهو في بداية طور الشباب، في روايته الدون الهادئ استطاع أن يرصد التطورات المأساوية التي عاشتها روسيا إبان الحرب العالمية الأولى وما تلاها من سقوط القيصرية والحرب الأهلية.
كما عايش الحرب العالمية الثانية كمراسل حربي، فكتب روايته «مقاتلون في سبيل الوطن» أما «جورج أورويل» الأديب والسياسي الأشهر، فقد شاركَ في الحرب الأهلية الإسبانية، كما تطوع ليكون جنديا إلى جانب الثوار في كتالونيا، في العام 1938 حيث أصدر روايته «الحنين إلى كتالونيا» ليؤرخ لأحداث الحرب الأهلية الإسبانية تأريخاً روائياً سياسياً ثورياً محكماً, أما «إرنست همنجواي» فأصيب في الحرب وكتب عنها، حيث شكلت الحرب أكثر الموضوعات التي كتب عنها، شارك في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وأصيب أثناء مشاركته في الأولى إصابات بالغة، وقد خدم همنجواي على سفينة حربية أميركية كانت مهمتها إغراق الغواصات الألمانية، ونال عدة أوسمة عسكرية, لم تكن مشاركة «همنجواي» فقط في الحربين العالميتين، وإنما شارك أيضا في الحرب الأهلية الإسبانية عام 1936 كمراسل حربي. كتب همنجواي عن الحرب، مصير الإنسان فيها، المآسي التي تخلفها عبر العديد من الروايات منها «وداع السلاح» و«لمن تقرع الأجراس».
لقد سجّل الأدب منصة سباق مرعبة مع الموت، عاشها أغلب كتاب الحروب، وقد رأت تلك الأعمال التي رأت الحرب ووصفتها من قلبها، ما لم يره آخرون كتبوا بعدهم بسنوات, نحن القراء في الشق الآخر من العالم، لم نتأثر كثيرا بما كتب، فتلك الحرب كانت حربهم، إلى أن انفجرت حربنا، وظهر أدب الحروب بالحرف العربي والرؤية العربية المختلفة, قارئ رواية «فرنكشتاين في بغداد» سيعرف كم ساهمت الحرب في بناء نص «أحمد سعداوي»، على سبيل المثال، وكم عبثت بمخيلته، لا لتنهار دعاماتها، بل لتبقى سليمة، وتتأقلم مع حجم الجريمة الحربية التي نسفت العراق. كما أن قارئ رواية»مشفى المجانين» لصفوان إبراهيم، و»طابقان في عدرا العمالية» إنما يرى أعمالاً ولدت من رحم الحرب لكتاب عاشوا هذه الحرب وتجربتها الأقسى والأكثر وحشية في تاريخ الشعوب...
قد يكون من الصعب إحصاء الأعمال الأدبية التي تناولت حروباً، غير أن دراسة سريعة لتطور هذا النوع من الأدب تُظهر الدور البارز للأدباء والمثقفين في مناهضة الحروب من خلال كتاباتهم، لاسيما في العصر الحديث. ففي الوقت الراهن، أصبح الأدب العالمي منبرا للتعبير عن آمال وتطلعات ضحايا الحروب الدموية هنا وهناك، وأنه ينبغي عليهم العمل لرفع كابوس الحرب وإزالة القلق من أذهان الشعوب، ومن خلال نشر الأدب المثالي والموضوعي، ربما يمثل هذا إحدى مهام الكتَّاب والمفكرين الملتزمين. ما الأدب.. وما الشعر.. وما الرواية وما القصة وما الفن في زمن الحروب إن لم يكونوا بصمات الإنسان في هذه المحن والشدائد والانتصارات والهزائم، وما الأديب إن لم يكن تلك الصورة الصادقة التي تتماهى مع الوطن تاريخاً وشعباً ونضالاً وخلوداً ليكون هو الشاهد والرائي، الدليل والمستشرف، البشير والنذير والهادي.. مطلق الصرخة، بل وصاحب النبوءة.