تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


فان كوخ.. حرب ضد الجنون

عن The Times
ثقافة
الأحد 7-3-2010م
ترجمة رنده القاسم

في الثاني من أيار 1889، كتب «فينسينت فان كوخ» رسالة لأخيه (ثيو) من مشفى في (أرليس) الفرنسية ليكشف عن نية لاتحتمل. إذ قرر، ولأسباب عدة، بأن أكثر ما يناسبه هو الانضمام للجيش. وأعرب «فينسينت» عن قلقه من رفض محاولته بسبب ما أسماه «الحادث» وبالتأكيد هذا ما كان.

أما الحادث فهو ما وقع خلال فترة أعياد الميلاد في السنة السابقة، إذ عانى من أزمته الشهيرة وبلغ الأمر ذروته مع قطعه لأذنه. وبعد ذلك أصابته سلسلة من الانهيارات العقلية وكان من بين أعراضها الهلوسة السمعية والخوف من أن جيرانه يحاولون تسميمه. وأمضى معظم السنة مع مراقبة طبية.‏

و لكن الغموض والمفارقة في قضية فان كوخ، وهي الأشهر في تاريخ الفن، تكمنان في أنه خلال الأشهر التي أدت لهذه الكارثة بل وحتى بعد وقوعها باستثناء فترة المعاناة الحادة، استمر فان كوخ بالعمل ورسم روائع فنية تعتبر الأشهر عالمياً مثل «كرسي فينسينت و«كرسي غوغان» وكلاهما في تشرين الثاني 1888.‏

إذن ما مشكلة فان كوخ؟ وهل ساعدته أم أعاقته؟ بكلمة أخرى هل كانت مشكلاته العقلية مكملة لموهبته أم أنها واحدة من المشكلات الكثيرة التي عانى منها؟ ولكنها بالتأكيد كانت السبب في رفض الفيلق الخارجي الفرنسي رغبته بالانضمام له، وكان فان كوخ قلقاً من أن تعتبر رغبته هذه تصرفاً مجنوناً أو محاولة للتضحية بالذات، وأشار بحزن إلى إرادته العيش في بيئة تجبره على اتباع القواعد كما في المشفى أو الجيش فعندها فقط سيشعر بالهدوء.‏

و بعد أقل من أسبوع في 8 أيار سمح له وفقاً لرغبته بالدخول إلى مشفى الأمراض العقلية وبقي هناك لأكثر من سنة وغادر ليعيش شمال باريس تحت إشراف الطبيب، وهناك أطلق بنفسه رصاصة على صدره في 27 تموز 1890 ومات بعد يومين وهو في السابعة والثلاثين من عمره.‏

التراجيديا الحادة التي غلفت حياته خلقت صورتين متناقضتين عن فان كوخ. فالعامة تراه فناناً بدائياً مجنوناً، يعمل وفقاً لنوبات من الإلهام ويشرب المسكرات حتى الثمالة ويتصرف بغرابة.و من جهة أخرى يفضل مؤرخو الفن التأكيد على فان كوخ آخر: مفكر وقوي الملاحظة، أعماله نتيجة لتخطيط حذر، هذا عدا أن رسائله تكشف النقاب عن إنسان ذكي وفصيح.‏

و الواقع أن الصورتين تحملان شيئاً من الحقيقة. لأن فان كوخ قام بأفعال غريبة ولكن غير مؤذية وفقاً لشهادات جيرانه في أرليس،و كان سكيراً وهو نفسه تحدث عن ذلك واعترف بأنه وصل لدرجة الأصفر الفاقع بخلط قهوة مع كحول.‏

و لكنه كان يعمل بسرعة مدهشة وتباهى بأنه خلال ساعة فقط رسم السيدة جينوكس زوجة صاحب مقهى وذلك عام 1888بداية تشرين الثاني.‏

غير أنه طالما اشتكى من الشعور بأن دماغه أثناء الرسم يبذل جهداً كبيراً في الحسابات الجافة لأجل الموازنة بين الألوان،كحال ممثل يؤدي دوراً صعباً على خشبة المسرح، حيث عليك التفكير بآلاف الأشياء في وقت واحد خلال نصف ساعة ولكن الشيء الوحيد الذي كان يعزيه ويلهيه الخمر أو الكثير من التبغ “ وكل ذلك قد يبدو تصرفات بوهيمية، ولكن،وفقاً لرسائله واسكيتشاته، كان فان كوخ يفكر مسبقاً بكثير من الوضوح.فالسيدة جينوكس عملت لأشهر في الفندق الذي أقام به وبلا شك قدمت له الكثير من المشروب، ما يعني أنه امتلك الكثير من الوقت للتفكير بكيفية رسمها قبل القيام بذلك فعلياً وسط نوبة من الطاقة.‏

والأكثر من ذلك أن فان كوخ كان قارئاً ويفكر بعمق وكان شرهاً في قراءة الروايات والجرائد، وبشكل عام يميل مؤرخو الفن إلى اعتبار مشكلات فان كوخ العقلية غير ذات صلة وركزوا على أعماله وكلماته، فمن الصعوبة بمكان تشخيص حالة رجل مات قبل مئة وعشرين عاما. ولكن هذا لم يحول دون محاولات كثيرة نتج عنها افتراضات متفاوته مثل: تسمم بالرصاص، الهلوسة، داء ميينيير، ضربة شمس حادة، شيزوفرينيا، الزهري، الصرع، عدم توازن في الهرمونات أو اضطراب في الشخصية. ولكن هل من طريقة لضحد هذه الافتراضات الطبية؟ ربما، ولكن لا يمكن أن ننكر وجود مشكلة راسخة ومستمرة أتعبت فان كوخ كما قال هو نفسه.‏

وبالمقاييس التقليدية، كانت حياته غريبة الأطوار، فأبوه كاهن هولندي قرر أن يعمل ابنه الأكبر فينسينت في تجارة الفن غير أنه ترك هذه المهنة واتبع خط أبيه, ولكنه لم يكمل محاولته بتعلم اللاهوت وعوضاً عن ذلك أضحى واعظا في مناجم الفحم البلجيكية ولم يكن يملك المؤهلات في المدرسة التبشيرية ورغم ذلك تابع الوعظ إلى أن تم طرده. واستمر بالعمل التطوعي إلى أن قرر أخيراً أن يغدو رساماً. والمذهل أنه خلال السنوات العشر الأولى رغم بدايته غير المستقرة والمفتقدة للتدريب أبدع واحداً من أهم الأعمال في الفن الغربي.‏

وإلى حد ما لملم الفن شتاته، ويمكن القول إن الجهود اليومية للفت انتباهه للواقع، على سبيل المثال رسمه للكرسي، كانت عملية علاجية حتى وإن كان الأمر ينتهي به إلى زجاجة الخمر. واستمر فان كوخ ببذل الجهود باستثناء الأوقات التي كانت حالته العقلية في الحضيض. وهنا نتحدث عن جانب آخر في مشكلته وهي أنها كانت متقطعة، فبعد أيام من الأزمات الحادة يعود لإنجاز روائعه. وهذا الأمر قد يفترض إصابته بالاكتئاب المهووس أو ما يسمى هذه الأيام بالاضطراب ثنائي القطب.إذ كان يمر بفترات اكتئاب تتلوها فترات من الطاقة والابتهاج.‏

ولكن يبقى الشيء الأكيد بأن المشاعر التي كان يرى فيها الأشياء العادية ويصورها تعبر عن حالة من اليأس مع محاولات لربط نفسه بالواقع.‏

فان كوخ لم يكن فناناً مجنوناً ولكنه رسام عظيم جداً خاض حرباً داخلية ضد الجنون.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية