البحر اليوم منسكب في دن معتق، وهل تصدقون أو تقولون إن البحر لا ينسكب في دن فكيف إذا قلت، وعلى مذهب من يحب مذهب الشعراء ولست بشاعر.. كيف إذا قلت للأستاذ الكبير أمد الله بعمره- : إن البحر دمعتان، نعم دمعتان، البحر الهدار الواسع الغادر، المهادن ، البحر بروعته دمعتان كماأراه دمعة أم طهوراً، أم نذرت ضياء العين لتراك ، أم استوهبتك من السماء فكانت أبواب السماء غيثاً مدراراً ودمعة أخرى هي دمعتك.. هي سيلٌ من النقاء والصفاء دمعتك أنت محيط لجب، عالم إنساني لاضفاف له.
هذا الاستهلال أستعيره من نفسي إذ كتبته ذات يوم بعد أمسية عابقة برائحة البحر كان حنا مينه سندبادها، وكان ذلك في قاعة الصليب المقدس عام 2004 ونشرت المادة المستعار منها هذا الاستهلال تحت عنوان: حنا مينه في بوحه الجميل: أخاف ألا أموت، تاريخ 5/5/2004 في الصفحة الثقافية .
بعد إعلان البراءة هذا من إعادة النشر ثانية، قد يسأل سائل: ما المناسبة التي تجعلك اليوم تعود إلى الاستهلال وإلى حنا مينه الأمر لا يحتاج مناسبة، وحقنا أن نحتفي بأدبائنا في كل حين ولكن المناسبة أن أستاذنا الكبير حنا مينه يبلغ السادسة والثمانين من عمره مع صباح يوم الغد.
نعم في شهر آذار كان المولد وكنا على موعد مع طفل نذرت أمه مداد القلب ليبقى وليعيش، وعاش حنا مينه وبلغ السادسة والثمانين- أمد الله بعمره- وهو الذي قال في أمسيته الشهيرة عام 2004م : أخاف ألا أموت .. حنا مينه سفيرنا إلى عالم الابداع الروائي يرى أن الكتابة هي الحياة يقول: لم أكن أتصور حتى في الأربعين من عمري أنني سأصبح كاتباً معروفاً، فقد ولدت كما هو معروف عني بالخطأ، وكتبت بالخطأ أيضاً، والدتي اسمها: ديانا ميخائيل زكور، وقد رزقت بثلاث مصائب عانت منهن الكثير الكثير، فالوسط الفقير إلى حد التعاسة كان يشكل عقلية سلفية بالغة القسوة وقد تعاون هذا الوسط وما فيه من ظلم ذوي القربى على إذلال والدتي بإفهامها أنها لا تلد إلا البنات، وكان المطلوب أن تلد المرأة الصبيان، وفي الأقل الأقل أن تلد صبياً بعد بنت، لكن القدر شاء أن تحمل وتلد البنات الثلاث بالتتابع، الأمر الذي كان يحمل إليها مرارة الشقاء بالتتابع أيضاً.
وستقول لي أمي حين أكبر: اسمع ياحنا أنت ابن الشحادة.
فقد شحدتك من السماء منذ تزوجت أباك، وفي كل مرة كنت أحمل فيها كانت السماء تعاقبني فأرزق ببنت ، أنا التي كنت أسألها الصبي، أسألها أنت، وأنت لم تأت إلا في الحمل الرابع الذي بكيت فيه من الفرح، بينما كنت قبل ذلك أبكي من الحزن، لقد منحتني السماء إياك بعد طول انتظار، وطول معاناة ، لكن المنحة كانت حتى مع الشكر منحة مهددة بالأمراض والخوف عليك منها، ثم الدعاء إلى الله في أن تعيش كرمى لي حتى لاأعيش الخيبة من جديد وهذا ماحدث، فقد ولدت عليلاً ، ونشأت عليلاً وكان الموت والحياة يحومان حول فراشك الذي كان طراحة.
على حصيرة
في بيت فقير إلى حدّ البؤس
وحين يفتح الذاكرة يكتب بجرأة جميلة عن أبيه إذ يقول: كان أبي رحمه الله رحالة من طراز خاص لم ينفع برحلاته كلها، أراد الرحيل تلبية للمجهول تاركاً العائلة أغلب الأحيان ولطالما تساءلت وراء أي هدف كان يسعى.. لا جواب طبعاً إنه بوهيمي بالفطرة، وقاص بالفطرة، يصنع من أي مشهد حكاية شائعة، وقد أفدت منه في هذا المجال فقط، كان رخواً إلى درجة الخور أمام شيئين: الخمر والمرأة، لم يفز بالمرأة ولم يستمتع بالخمر..
وعن بداياته الأدبية يقول: بداياتي الأدبية كانت متواضعة جداً فقد أخذت منذ تركت المدرسة الابتدائية بكتابة الرسائل للجيران وكتابة العرائض للحكومة، كنت لسان الحي إلى ذويه وسفيره المعتمد لدى الدوائر أقدم لها بدلاً من أوراق الاعتماد عرائض تتضمن شكاوى المدينة ومطالبها، هنا كنت صدامياً ومنذ يفاعتي: إننا جياع، عاطلون عن العمل، مرضى أميون فماذا يريد أمثالنا؟ العمل الخبز المدرسة، المشفى، رحيل الانتداب الفرنسي، مطالبة الحكومة في فجر الاستقلال أن تفي بوعودها المقطوعة لأمثالنا.. هذه كانت بدايتي، بدأت حياتي الأدبية بكتابة مسرحية دونكيشوتية، صرخت فيها على كيفي، غيرت العالم على كيفي، وأقمت الدنيا ولم أقعدها، ضاعت المسرحية ومنذئذ تهيبت الكتابة للمسرح ولم أزل، القصص ضاعت أيضاً، لم أشعر بالأسف وكيف أشعر به وحياتي نفسها ضائعة..؟ ثم إنني لم أفكر، وأنا حلاق وسياسي مطارد بأنني سأصبح كاتباً، كان هذا فوق طموحي رغم رحابة هذا الطموح، صدقوني إنني حتى الآن كاتب دخيل على المهنة وأفكر بعد هذا العمل الطويل بتصحيح الوضع والكف عن الكتابة، فمهنة الكتابة ليست سواراً من ذهب، بل أقصر طريق إلى التعاسة الكاملة.
زارع الأمل:
حنا مينه زارع الأمل والمحبة، مبدعنا العالمي لم يغادر مهنة الكتابة التي قال عنها إنها تأتي بالكآبة والتعاسة، ولنقل الفقر، اليوم نبارك عيد ميلادك السادس والثمانين ونقرأ ما تجود به وأنت الباقي متقداً سواء خفت ألا تموت كما قلت في تلك الأمسية، أو قلت إنك خريج مدرسة الحياة بما فيها.. عام جديد وأمل جديد، أظنك وأنت غداً تدلف عامك الجديد ستعيد قولك السابق أيضاً: أحب نصفي المجنون وأبارك القلق وألعن الطمأنينة.
يا سيدي، نصفك المجنون يجعلنا عقلاء عقلاء.. وقلقك أضفى السكون والطمأنينة على قلوبنا، كتبت وصيتك وأودعتها القلوب قبل السطور والصفحات، وكل جملة كتبتها هي ميراث ووصية، كل رواية، كل مقال هو إرث ثقافي نعتز به وحكاية عمر لم تكن مفروشة بالرياحين ولكنها أضاءت وأنارت، كل عام وأنت بخير، سلمت ويسلم قلمك وفي شهر آذار قالت لنا الأرض أسرارها.. أتراك ستبوح بالسر..؟!