لوحة تضم صوراً لعدد من الكتاب الروس ذيّلت بالقول: الأدب ثمرة الحياة, لوحة تضم بيتا من شعر الياس أبي شبكة: (ويا وطنا بالحب نكسو أديمه ويحرمنا حتى رضاه ويمنع) كثير من الكتب, صورة للشهادة الإبتدائية اصفرّ ورقها كتب أعلاها: الدولة السورية, وزارة المعارف, تعود لعام 1936, صورة تجمع الأديب بعائلته إثر تقليده وسام الاستحقاق من الدرجة الممتازة, صور شخصية له في مراحل عمرية مختلفة, ثم كثير من المجسمات الصغيرة لبعض الآثار السورية.
كان هو.. حنا مينه الذي لم أكن قد رسمت له صورة واضحة المعالم بعد في مخيلتي, بدا كالرمح الواقف في وجه الريح, والبحر العاصف الثائر. حنا مينه المخلص لواقعه ونفسه دون كثير رتوش, يكتب ما يعيش, ويعيش ما يكتب, والذي تخرّج من جامعة الفقر الأسود والحديد الذي اكتوى بالنار, ولذا أحبّ الرجال الشجعان المغامرين الباحثين أبداً عن هدف أبعد, رافضين الاستسلام لنشوة النصر الآني..
قال يومها ولم يفت وقت طويل على رحيل أديبين كبيرين: لم أذق طعم الراحة والهدوء , بعد رحيل الصديقين الماغوط والعجيلي, الموت يا ابنتي نوم ثم لا شيء, وأنا أريد أن أنام نومة شكسبيرية, وأدعو الله أن يحررني من هذا الهم ( الكتابة )! لقد فقدنا وبكينا ممدوح عدوان وسعد الله ونوس, والماغوط, والعجيلي إلا أنا ! لماذا لا أموت? أليس من حقي أن أستريح؟!
هو يعلم أن بعض الناس يحبونه, وبعضهم لا يحبه, قال: الأشرار لا يحبونني.
لا يخضع حنا مينه لقوانين المكان خلال الكتابة, فليس لديه مكان مفضل يكتب فيه جرياً على عادة الكتاب ولذا قال: لا زمان ولا مكان, فليذهبوا كلهم إلى الجحيم.
يؤكد بعزيمة بحار عتيق أنه أول من تنبأ بسيادة الرواية على ساحة الأدب: أنا الذي قلت الرواية ستكون ديوان العرب في القرن 21 ولكنها صارت ديوان العرب في القرن ال 20
في ذلك اللقاء تذكر: أرسلت أميرة سعودية أو غير سعودية لا أدري واحدة من وصيفاتها ربما, أعطتني نسخة من رواية الياطر وقالت: الأميرة تريد إهداء على الكتاب, فكتبت إهداء لا يضر ولا ينفع, ثم قدمت لي شيكاً موقعاً على بياض مقابل أن أكتب الجزء الثاني من رواية الياطر , مزقت الشيك ورميته. قبل 40 سنة كتبت الياطر وهو الجزء الأول, ولم أكتب الجزء الثاني, ولن أكتبه, لن أكتبه والسلام عليكم!. أنا بسيط في حياتي ولكني أملك الملايين من عرق جبيني.
لكلمات مينة ثقلها الخاص لأنها نتاج خبرة طويلة في الحياة والكتابة, ولعل سر الإبداع يكمن فيما قاله: القلق هو المحرك للحب والإبداع, والطمأنينة قاتلة الحب والإبداع, وأنا لعنت الطمأنينة ثلاثاً. ثم قال: حنا مينه ليس كاتباً فقط, بل له فلسفة في الحب وله فلسفة في أشياء أخرى. لاشك بأن حنا مينه يكره الزمن وما يخلفه من آثار على الأجساد, لكنه – أي الزمن – عاجز عن المس بالأرواح الكبيرة, ولذا قال: إنها المهزلة.. حنا مينه الذي كان يصعد الجبال وينزل الوديان, المناضل والمكافح, يصير حنا مينه العاجز.. الجسد يخون, لكن الروح لا تخون!
أحب مينة أغاني فيروز وخاصة ما كتبه سعيد عقل, وهو يرى أن في لبنان عبقرياً واحداً هو سعيد عقل, أما الياس أبو شبكة فشاعر كبير غيّر مضامين الشعر.
ولكن أيعقل ما قاله عن الحب؟! أنا لا أحب . الناس مبتلون بهذا الأمر وقد اتصل بي أحدهم وقال لي: (يا أخي حب وخلّصنا من هذه المشكلة ). سألناه: أحقاً لم تحب? وأجاب: لا أبداً, في عمري كله لم أحب! وكررنا: لماذا تصرّ بأنك لا تحب? فيعاود التاكيد كمن يدفع عنه تهمة: لأني لا أحب...
لعله تنبه لما يدور في خلدنا فحاول التبرير: يا ابنتي أنت لا تعرفينني, أنا عشت طفولتي في الشقاء الأسود, هناك شقاء أسود وشقاء أبيض, وما أعيشه الآن هو الشقاء الأبيض, أما طفولتي فقد عشتها في الشقاء الأسود, أجير, وأجير, وأجير, وحلاق, ثم مغامر ذهب إلى ليبيا ليحارب رومِل , والبحرية التي انتسبت إليها, وعندما رحل رومِل قلت سأخلع البدلة ولن أحارب , هذا من بعض جنوني . أنا نصف عاقل ونصف مجنون, وقد بقي نصفي المجنون.
فهل كان البحر ثم دمشق حبه الوحيد؟ قال: لدي أمنية كتبتها وهي أن ينتقل البحر إلى دمشق, أو تنتقل دمشق إلى البحر , هذه أمنية مجنونة لم تتحقق ولن تتحقق.
رغم إصراره على أنه لم يحب يوماً, يرى في المرأة سبب نهوض الأمة بل هي من صنعت تقدمنا الاجتماعي وليس الرجل ويؤكد انه لا يتملق المرأة بذلك, ويزيد: أنا أحب المرأة لوجه الله... المهم حنا مينه ليس هو من صنع التقدم الاجتماعي - أنا تقدمي أسمح لنفسي بالعشق, لكن إن أحبتْ ابنتي أنقلب إلى رجل رجعي تافه وسخيف.
أخيراً أقول في ذكرى ميلاد حنا مينه: بعض الرجال يستحقون عمراً أطول وجسداً لا يخون..