تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الجدال المعاصر أفكار أفلاطون الأساسية

ملحق ثقافي
7-8-2016
حاتم حميد محسن

الدين هو ممارسة العقيدة، وفي أغلب الحالات ارتبط بوجود إله متجاوز. مقترحات أفلاطون التي سنناقشها سوف تتبع التعريف العام بأن الدين هو «الإيمان القوي بقوة خارقة للطبيعة تسيطر على قدر الإنسان».

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

هذا سيسمح بنطاق ملائم للنقاش ويساعد في استكشاف أفكار تتجاوز تعريف الدين كمجرد ممارسات سلوكية من عبادة وطقوس وقوانين دينية، لأن هذه ليست مسألة هامة ضمن أعمال أفلاطون. إن أفكار أفلاطون التي جاءت ضمن سياق ديني، قد أثّرت على أنثولوجيا مختلف المعتقدات من خلال التأثير والإبداع والتعبير في حواراته الناقلة للنظريات. البعض يصف أفلاطون كمخترع للفلسفة، بينما (وايتهد) استنتج بأن «السمات العامة لتقاليد الفلسفة الأوروبية هي أنها تتألف من سلسلة من هوامش أفلاطون». وهنا يبرز النقاش عن حجم تأثيره الكثيف على الفلسفة الدينية.‏‏‏

أثناء فترة أفلاطون في اليونان القديمة، كان قد جرى للدين تنظير لاعقلاني ليكون مسؤولاً عن أفعال الطبيعة غير الواضحة. ضرورة خدمة الآلهة وتقديم القرابين، إلى جانب العقائد الأخرى، قيل إنها ترتبط بطبيعتنا الإنسانية. إنها طبيعتنا الإنسانية أن نسأل، أفلاطون نظر في سبب وجودنا، طبيعة الواقع، وفكرة الروح. نحن كبشر نبحث عن إجابات، غير أن المبدأ المشترك لجميع الأديان هو القصد المتأصل لدى الإنسان للبحث واكتساب المقدرة على التأثير على قدرنا في هذا العالم والعالم الآخر. من الملاحظ أنه السبب في قيام اليونان القديمة ببناء المعابد وتقديم النذور للآلهة.‏‏‏

طبيعة الإنسان تجعلنا ننظر إلى شيء ما أكبر، نستجوب موقعنا الروحي ونبحث عن الغرض. حتى (ديكنز) تساءل فيما إذا كان الإنسان «حقاً ضعيف جداً في طبيعته لدرجة أن المجتمع سينهار بدون الدين». «العقيدة، الممارسة والعادات ومهما كانت الأعراف الفردية والجماعية جميعها، تم تقاسمها في الفعل والتعبيرات في كل العالم». التعبير عن العقائد الدينية كان دائماً متكاملاً مع ثقافة الإنسان. أما اليوم فقد اعتُبر من الضروري مناقشة ومساءلة أي بيانات أعطيت لنا لوضعها مع ما نؤمن به كحقيقة.‏‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

الصيغة الشائعة لعمل أفلاطون كان أن يفترض مأزقاً، ويناقش القضية من رؤية ذات خصوصية معينة. «سقراط خلق طموحاً لهذا بإشراك الناس بمحادثات للتحقق من أساس عقائدهم. عبر توجيه خط من التحقيق، كان النقاش في العقائد عرضة للتمحيص، وأصبح يُنظر إليه كمأزق بحاجة للاختبار. «في عرضه لنسخته الأصلية في الجدال الكوسمولوجي، يشير أفلاطون في (القوانين) إلى أن الأشياء في الكون تتحرك وتتغير»، غير أن الحركة أو التغيير في شيء ما، ينشأ بفعل حركة أو تغيير في شيء آخر يؤثر عليه. ولكي ننهي هذه السلسلة من الأسباب، فيجب أن نتصور أن الحركة أو التغيير إنما تنشأ من محرك ذاتي أصلي. أفلاطون اعتقد أن هذا المحرك يجب أن يكون مصدراً للتغيير بكل ما حدث ويحدث.‏‏‏

لاحظ أفلاطون أن هناك ضرورة «لننهي سلسلة الأسباب». ربما يتصور المرء أن هذا هو نسخة أساسية لمنطق (ليبنز) بأنه يجب أن يكون هناك سبب كاف لانطلاق أو لبداية السلسلة. لذلك، فإن رؤية أفلاطون أطلقت شرارة النقاش، فيما إذا كان يتوجب قبول أو رفض إمكانية التراجع اللانهائي في العلل. نقاشات المذهب السببي نجدها بارزة في عدد كبير من الأعمال الفلسفية. افتراض الضرورة حفز النقاد لعمل تحقيقات مكثفة بمثل هذه الحجج الدينية. (رسل) رفض لغة الحدوث contingence باتهامه الاستنتاج ينطوي على افتراض غير موجود في المقدمة. (هيوم) فحص الحجج المتعلقة «بالقفزات» اللامنطقية للمقدمة، ونظر بمدى مقبولية المسائل المتضادة بشأن الحجة الأصلية. هذه النقاشات الكوسمولوجية ضمن فلسفة الأديان الغربية، كلها تأثرت بأعمال أفلاطون.‏‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

توما الإكويني أيضاً بنى على حجج أفلاطون الكوسمولوجية، عبر افتراض الإله الآرامي في الإيمان الكلاسيكي ككيان عظيم حكيم رحيم. هذا يختلف عن الافتراض الأصلي لأفلاطون بخالق مسؤول عن الخلق. الخالق جرى تصوره كموجد للنظام مقارنة بإله إبراهيم الوارد في النصوص المقدسة. غير أن الإله لم يتم تصوره كخالق للكون من العدم، وإنما كصانع للمادة قبل الوجود. أيضاً أفلاطون نظر بحذر في مشكلة الشر في توضيح الإله. الإله الأفلاطوني عظيم لكنه ليس رحيماً. وفق طبيعة الصانع هذه، فإن الشر إذا كان موجوداً، فهو لا يستطيع امتلاك كل من العظمة والرحمة. «دور الصانع محدود ببدء العملية التطورية». هذا مثال عن الجدال المعاصر الذي هو بوضوح تأثر بأفلاطون ومع ذلك بقي جزءاً مكملاً للاستنتاجات العلمية الحالية.‏‏‏

رأى أفلاطون بأنه يجب أن يكون هناك مقياس للخيرية لكي نحدد الإله كمتسامح، وأكد أن هناك مستوى للخيرية غير معتمد على الإله. هذا اصبح الأساس لمعظم أفكار أفلاطون الأساسية المتطابقة مع فكرته عن الروح. نظرية الأشكال التي طغت على فلسفة الدين الغربية، تحاول توضيح معرفتنا الأخلاقية الفطرية.‏‏‏

هو يبدأ بمناقشة معنى الكلمات وهو التكتيك الشائع الذي اكتسبه من سقراط. أفلاطون يؤكد أننا نمتلك فكرة تامة عن مواضيع معينة يمكننا ضمن الزمان والمكان التعبير عما تشبهه. الجمال، مثلاً، يمكن نقله لأن الأشياء قد تشبه الجمال بطرق مختلفة. في (الفيدو)، هو يذكر محادثة يجادل فيها سقراط بأن طبيعة المعرفة تبيّن أن الروح تسبق في وجودها تصور الجسد. هذا عُرف بحجة التذكّر حيث يعتبر أفلاطون أحاسيسنا الجسمية غير تامة، ولذلك ليست مطّلعة تماماً على الأفكار التامة التي تترجمها الأشكال. في حوار (مينو) يحاول سقراط إظهار هذا الجدال باستعمال الولد العبد الذي ليس لديه معرفة سابقة بالهندسة. «أفلاطون يكشف أن هناك إحساساً فيه السائل يعرف ولا يعرف ما يبحث عنه». هذا أصبح يعرف بـ «مأزق مينو».‏‏‏

أفلاطون استخدم هذا الجدال كأساس لعقيدته في الأشكال. هو أكد أننا لا نستطيع اكتساب المعرفة بالحقائق المجردة من تجارب الأحاسيس الجسمية، وأن معرفتنا السابقة للوجود بالأشكال هي التي تسمح لنا بالتحقق من طبيعتها في المقام الأول. أفلاطون وصفها بـ «الحيازة الفطرية» التي لهذا السبب تشكل روحنا السابقة في الوجود على الأجسام. أفلاطون أيضاً يضيف بأن افتراض السابق في الوجود هو الذي يفتح التحقيق في ما بعد الوجود. خلود الروح يشير إلى أن الخالق أعطى الحياة للكائن البشري لهدف أعظم. «إن الروح عندما تنفصل عن البدن، فهي تتحرر من أمراض الإنسان وتعيش في سعادة عظيمة، لأنها لم تعد تفسر الأشكال من خلال أحاسيس ناقصة». خلود الروح قد يكون نتيجة لخصوصيتها الفطرية غير القابلة للتحطيم. إنها لا تعتمد على المغفرة ولا على أي صفات أخلاقية أو دينية للروح. هذه كانت مسالة أساسية في النقاش الذي منه انطلق مازق أيوثيفرو. المأزق سعى لتحدي نظرية الأوامر الإلهية وتساءل ما إذا كانت هناك أي نوايا روحية للخالق.‏‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

إن مأزق أيوثيفرو يستجوب طبيعة العلاقة بين الإله و»شكل» الأخلاق . سقراط يسأل أيوثيفرو «ما هي القداسة؟» وسؤال واحد مهم يبرز هنا: «هل إن الفعل جيد أخلاقياً لان الإله أمر به أم أن الإله أمر به لأنه جيد أخلاقياً؟». وفق نظرية الأوامر الإلهية، الفلاسفة اعتبروا أن لا شيء هناك كاف لتأسيس الأخلاق عليه، وإن وجود الشر يتضمن أن الآلهة قد يأمرون كل الأفعال الأخلاقية (حتى القتل) لتكون جيدة أخلاقياً لأنها قوة عظمى. سقراط اعترف أن الخير الأخلاقي لا يمكن أن يكون من أوامر الآلهة لأنهم يتصارعون ويتنازعون ويسرقون الزوجات من بعضهم. الموقف الذي تم التوصل إليه هو أن أوامرهم المختلفة لا يمكن أن تكون جيدة أخلاقياً. هذا أعطى قوة لنظرية أفلاطون في المستوى المستقل للخيرية.‏‏‏

«الأشكال لا يمكن أبداً رؤيتها في هذا العالم، طالما أنها دائمة ومفاهيم ثابتة لا تتغير- العدالة الحقيقة الجمال والخيرية- التي اعتقد أفلاطون أننا نمتلك إعجاباً فطرياً بها، حتى لو كنا لا نعرف أبداً مثالاً تاماً عنها. الأشياء ضمن العالم الفيزيقي تتغير دائماً، ولذلك هي ليست مصدراً لمعرفة الحقيقة. خبرتنا تعتمد على ما تفسره حواسنا وحواسنا ليست تامة.‏‏‏

كان جدال توما الإكويني متأثراً بوضوح بنظرية الأشكال. يشير الإكويني إلى الحاجة إلى أعلى مصدر للخيرية والحقيقة والرفعة. فمثلاً، الشيء الذي يقال (أسخن) هو منسجم مع المقارنة بما هو (الأشد حرارة)، إن المقياس المستقل الذي تحقق منه أفلاطون في هذه الحالة يجب أن يكون الحرارة. وللمقارنة البسيطة، حواسنا ستكون أشبه بمقياس الحرارة والذي هو ليس قياساً دقيقاً. نظرية الأشكال كانت مؤثرة جداً في تطوير أفكار حول الخيرية والواقع. السجناء في قصة الكهف سيكونون مستعدين لقبول ما يتصورونه كواقع حقيقي، وسوف لن يكونوا قادرين على فهم الشكل المطلق والحقيقي للخير. أفلاطون جادل بأننا سنرتكب فقط الفعل السيء لأننا لا نعرف الأحسن. غير أن أفلاطون في النهاية سيكون صائباً فيما يتعلق بالتصور حينما نقوم بالفعل دون أن نكون واعين تماماً بنتائجه.‏‏‏

فكرة أفلاطون عن الروح تضمنت مفهوماً يتطابق مع ثقافة اليونان القديمة. كانت هناك سلفاً فكرة ثنائية بأن الإنسان مركب من عنصرين متميزين الروح والجسم. وهي أيضاً جاءت ضمن الميثولوجيا اليونانية في إمكانية وجود الأشباح المؤقتة في عالم تحت الأرض. وفي كتاب الجمهورية أكد سقراط أن جميع البشر سيتمتعون بحياة بعد الموت. اليونان القديمة لم تفترض مسبقاً أي حياة بعد الموت، حيث كان الاعتقاد أن الخلود يعود لآلهة الأولمب. أما أفلاطون اعتبر الروح هوية كل فرد منا. فهو يوضح بأن الروح يجب أن تنفصل عن الجسم، إذا أريد لأي شيء يتبقى منا لأن الجسم المادي لن يبقى بعد الموت.‏‏‏

سيكولوجياً، سقراط وأفلاطون ربما صاغا هذه العقائد التي أعجبتهما بسبب عدم مقدرة الإنسان لتقبل أو فهم فكرة الموت. هذه العقيدة هي أيضاً جاءت ضمن المسيحية وأديان أخرى وهي ربما تنطلق من طبيعتنا في حب الاجتماع مع الآخرين. المرء قد يتقبل العقيدة بأننا سنجتمع مرة أخرى مع من نحب في الجنة ونعيش حياة الخلود. في كل من (فيدو) و(الأبولوجي)، من الواضح أن سقراط يعتقد تماماً بالوجود المستمر لدرجة هو لم يخش أو يستاء من الموت. الروح بالنسبة إلى أفلاطون ليست دائماً تامة فهي «سُجنت في الجسم وتلوثت به». اعتبر أفلاطون الاعتناء بالروح هي المهمة الأساسية في الحياة. الفرد يجب أن يعتني بالروح من خلال السيطرة الذاتية على الرغبات الجسمية. عندما نخضع للحوافز غير الرشيدة للرغبات الجسمية ستكون هناك مخاطرة في الإضرار بالروح.‏‏‏

أفلاطون يؤكد أن الفرد عندما يقوم بعمل خاطئ فهو يؤذي نفسه أكثر مما يؤذي الآخرين عبر الإضرار بروحه. «المسيحيون الزاهدون استخدموا أفكار أفلاطون في وصف الجسم كشيء شرير بذاته يجب قمعه والتغلب عليه» . أفكار أفلاطون حول الروح جوبهت من البعض بالرفض لأنها تعتمد على رؤية للعلاقة بين الروح والجسد اُعتبرت شديدة التجريد. العديد من الفلاسفة تبنّوا اتجاهاً أكثر عملية ينظر من زاوية سيكولوجية في فحص مدى معقولية مرشد أخلاقي فطري، لأن المضامين تتباين بوضوح. فرويد اعتبر الأخلاق تُكتسب فقط من الظروف الاجتماعية من خلال التأثير والتطوير. هذا سيكون مسؤولاً عن الاختلافات في الأخلاق التي نسبها أفلاطون إلى الحواس غير التامة لأن التجارب والتأثيرات هي فردية وشخصية .‏‏‏

يمكن القول إن الأفكار ضمن فلسفة الأديان الغربية تطورت من تأثير فرعين أساسيين ضمن فلسفة الإغريق القديمة وهما أفلاطون وأرسطو والأبيقورية (المفهوم المسيحي لم يظهر مباشرة في تفكير هذين الفيلسوفين لكن الأسئلة الأساسية التي عالجاها كانت مؤثرة جداً ووضعت الأجندة للعديد من النقاشات اللاحقة). أفلاطون هو من بين المفكرين القلائل الذين باستمرار جرت الإشارة إلى أعمالهم الأصلية. هذا يعود إلى الأصالة والعبقرية التي تميزت بها أعماله. أفلاطون تبنّى طريقة سقراط في عرض الجدال على شكل حوارات.‏‏‏

في الواقع إن بعض الحوارات هي فقط تكيفات بسيطة لشخصية سقراط ولنقاشاته الحقيقية التي حدثت بين سقراط وزملائه. من المعقول الافتراض أن أفلاطون كان يشجع أفكار سقراط وطرقه وخطه في الاستجواب. وان أفلاطون أراد بسط شهرة المعلم الذي ادّعى عدم المعرفة بأي شيء. من الصعب التمييز بين سقراط وأفلاطون، غير أن أفلاطون في صياغة عمله يكون قد اخترع بكفاءة موضوع الفلسفة. هذا بسبب أن سقراط لم يكتب أي شيء على الورق وأن ما سُجّل فقط مباشرة من الحوارات هو ذلك المتعلق بمحاكمته وبنهاية حياته.‏‏‏

ولهذا فإن أسس فلسفة الأديان الغربية برزت فقط من شخصية سقراط الناطقة ومن الظروف التي أحاطت بوفاته والتي حفزت العديد من الأتباع بما فيهم أفلاطون على الاستمرار في البحث عن الحقيقة. البعض اعتبر أن ما كتبه أفلاطون على الورق حقق نفس التأثير الذي أنجزه سقراط في الكلام، حتى مع اختلاف المحتوى. وبالرغم من أن بعض أعمال أفلاطون تعرضت للانتقاد بسبب طبيعتها التجريدية، لكنه لايزال مؤثراً رئيسياً في الفكر الفلسفي الغربي. المترجمون مثل أفيروس هم أيضاً ذوو أهمية كبيرة حين سمحوا لأعمال أرسطو وأفلاطون لتكون متاحة في العالم الغربي وأثارت نقاشات مستقبلية. وبالتالي، فإن التأثير على مستقبل فلسفة الأديان سيستمر إلى ما لا نهاية، لأن الحوارات عملت كمدخل وكدعوة للقارئ للتفكير.‏‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية