تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الأدب الروسي إلى الواجهة من جديد

ملحق ثقافي
7-8-2016
إعداد: رشا سلوم

ما الذي يجعل العالم مشدوداً إلى الأدب الروسي، وكيف ينظر إليه النقاد الغربيون؟ أسئلة كثيرة لابد من طرحها بعد أن عادت روسيا إلى المشهد السياسي والثقافي من جديد. وكانت العين دائماً وأبداً مسلطة على الاتحاد السوفييتي بكل ما يقدمه وينتجه ولاسيما الفكر،

شغل الغربيون بمحاولة تفكيكه، وقد نجحوا، لكنهم الآن يعرفون أنه قد أعاد البنيان قوياً من خلال روسيا، وعاد الأدب الروسي إلى الواجهة من جديد. لم يعد أدب الانشقاق هو الشغل الشاغل للغرب، لا بل ثمة حفريات وقراءات في تاريخ وحيوات الكتاب الروس، كيف عاشوا وماذا أبدعوا، قراءاتهم على ضوء معطيات التحليل النفسي والذهاب بعيداً في محاولات سبر هذه الأغوار .‏

عالمياً هذا اللون من الدراسات مهم ومعروف، ولكن التركيز الآن على الأدب الروسي لتفكيك بناه وعراه يبقى محل تساؤل ولاسيما إذا طبقنا عليه قول أحد النقاد الروس: إن تشريح العمل الأدبي كذبح بلبل صغير من أجل بضع غرامات من اللحم، فكيف إذا كان الأمر مع كتاب كبار، ليست الغاية من دراستهم معرفة القوة، بل إنها من أجل كسر الصورة الزاهية التي يظهرون بها.‏

من الدراسات المهمة التي تناولت هذا اللون، دراسة للدكتور محمد نصر الدين الجبالي الذي يرى أن الأدباء هم الأكثر عرضةً للضغوط النفسية والاكتئاب، وهناك من يجد صلةً وثيقةً بين الإبداع والانحرافات النفسية. ومن هذا المنطلق، يوجد العديد من الأمثلة والنماذج في تاريخ الأدب العالمي والروسي لعباقرة ومشاهير، عانوا من أمراض نفسية مختلفة. وطبقًا لإحصاءات منظمة الصحة العالمية، يعاني أكثر من نصف مليار شخص من أمراض نفسية، ويتزايد هذا العدد سنوياً بفعل تدفق المعلومات والأزمات السياسية والاقتصادية.‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

ويمثل الانشغال بالأدب والكتابة، أرضية مثالية لظهور واشتداد الانحرافات النفسية لدى الشخص، وتؤكد الدراسات أن الأدباء أكثر عرضة من غيرهم لهذه الأمراض، وبمقدار الضعف. ونورد فيما يلي بعض الأمثلة من تاريخ الأدب الروسي لأدباء روس مشاهير.‏

لعل الكاتب الروسي الكبير نيقولاي غوغول (1809 - 1852م) خير مثال على ذلك، فقد قضى غوغول معظم سنوات عمره يعاني من مرض الهوس الاكتئابي أو الاضطراب الوجداني ثنائي القطب. كتب يقول: «كنت أعاني من وقت لآخر من مرض يجعلني أبقى بلا حراك في غرفتي من أسبوعين إلى ثلاثة». هكذا وصف غوغول حالته. وعندما أصبحت هذه الحالة تنتابه كثيراً، قرر أن يعزل نفسه في غرفته، ويضرب عن الطعام حتى وافته المنية.‏

عانى مؤلِّف كتاب «الأنفس الميتة» من مرضه النفسي، الذي تفاقم بسبب النوبات المتتالية عليه، واشتكى غوغول من هلوسات مرئية وصوتية، ولم يستطع أن يلاحظ الخطر المميت الذي بات يهدده. تناوبت عليه حالات اليأس مع النشاط المفرط والإثارة. في كثير من الأحيان، كان الخوف من الأماكن المغلقة يطارده، وتفاقمت الاضطرابات الذهنية لديه، خاصة بعد وفاة أخت صديق مقرَّب له وتدعى يكاترينا خومياكوفا، عندها بدأ غوغول يرفض تناول الطعام، وأخذ يشكو من الضيق والضعف، وفي إحدى ليالي شباط 1852، أحرق غوغول مخطوطاته. وبدأت حالة الكاتب في التدهور تدريجيَّا وبشكل حاد. وفي 21 شباط، تُوفي غوغول من فرط الإرهاق، وهناك من يرى أنه انتحر.‏

كان صدور كتابه الأخير «الأماكن المختارة»، والهجوم الذي تعرَّض له من قِبل الأصدقاء سببًا في تقويض صحته العقلية. كتب طبيبه الخاص يقول: «كان جسده نحيفاً للغاية، وبدت عيناه يملأهما الحزن والملل، ووجهه قد استنزف بالكامل، وتهدلت خدوده، وأصبح صوته ضعيفاً، وكان لسانه يتحرك بصعوبة، وأصبحت تعبيراته غامضة، وغير قابلة للتفسير. لقد بدا لي من الوهلة الأولى كرجل ميت».‏

وحتى الشاعر الروسي العظيم ألكسندر بوشكين (1837-1799) عانى فترات ليست بالقصيرة من الاكتئاب والضغوط النفسية، فمنذ شبابه المبكر لوحظ على الشاعر بعض أعراض عدم التوازن النفسي، فكان شديد الحساسية في التعامل مع أقرانه في المدرسة، وسريع الانفعال. ويربط الباحثون في إبداعات بوشكين بين هذا السلوك العدواني للشاعر، وتوقد مشاعره الذي يفوق غيره من البشر، عانى الشاعر لسنوات طويلة من الاكتئاب، بعد إنهاء دراسته في المدرسة، وتوقف عن الإبداع تقريباً. ويؤكد النقَّاد، أنه يمكن بسهولة تتبع فترات الجمود الإبداعي عبر مراحل حياة بوشكين، وفترات المعاناة من الاكتئاب والوحدة.‏

ويرى بعض الباحثين في إبداعات الشاعر ميخائيل ليرمونتوف، (1841-1814) أنه قد عانى من الشيزوفرينيا، ويؤكد النقاد أيضاً أن ليرمونتوف كان معروفاً بالعدوانية في التعامل، وبكونه غير اجتماعي على الإطلاق.‏

كان ميخائيل يوريفيتش ليرمونتوف يعاني الكثير من الأمراض الوراثية والمكتسبة وأهمها المشيمة، العصبية المفرطة. انتحر جده بالسم، وكانت أمه عدوانية ووالده قاسياً طائشاً، مدمنًا علي لعب الورق. وفي طفولته المبكرة بدت علي الصبي علامات انفصام: فكانت شخصيته تجمع بين القسوة الشديدة واللطف المفرط، وحب العدل وكراهية الظلم. وكان يشعر برغبة في التدمير، وكان شديد الانفعال، متقلب المزاج، متعنتاً. راودته فكرة الانتحار أكثر من مرة وهو في سن مبكرة من حياته. كان دائماً منغلقاً على نفسه، كما أنه لم يكن جميلاً، ما أدى ذلك إلى عزلته أكثر، ولم تكن النساء يعجبن به، وهو ما أهان غروره كشاعر كبير.‏

في القرن التاسع عشر، كان الشاعر الروسي قسطنطين باتيوشكوف (7871-5581) يعاني من مرض عقلي وراثي، مصحوب بالاكتئاب، ومحاولات الانتحار. وقد كتب طبيبه المعالج أنطون ديتريتش يقول: «يتفق الجميع أن باتيوشكوف كان رجلاً نبيلاً، وصديقاً مخلصاً، محبّاً للعطاء، ومحبّاً لوطنه. غير أنه الآن يبدو كوحش، لا تجرؤ على الاقتراب منه دون خوف، أصبح يعتقد أنه إله، لم يعد يتعرف على أي شخص، وليس لديه حب لأي إنسان».‏

كاتب آخر عظيم هو ليف تولستوي، (1910-1828) صاحب «الحرب والسلام» و»آنا كارينينا». عانى تولستوي من نوبات اكتئاب شديدة، ومتكررة، وأعراض رهاب مختلفة، وقاوم الكاتب حالة الاكتئاب والملل هذه سنوات طويلة. كما عرف تولستوي بكونه ذا ميول عدوانية شديدة. وقد اشتهر بأعماله العظيمة، وبكونها كتابات شديدة التعقيد، تفيض بالاستطرادات والأطروحات الفلسفية والتاريخية. وبدا أنه يسعى من خلال ذلك إلي تناسي الإحساس بالخوف، والهلع، والملل، الذي عانى منه في إطار بحثه عن إجابات لأهم القضايا التي تتعلق بمعنى الحياة والكون.‏

وعندما بلغ الثالثة والثمانين، قرر أن يتنقل بين المدن الروسية وفر من منزله. إلا أن هذه الرحلة كانت الأخيرة، ولم تدم طويلاً. حيث مرض بالتهاب في الرئتين، واضطر إلى التوقف في بلدة أستابوفا، حيث سرعان ما وافته المنية هناك. وقد تم تغيير اسم البلدة إلى «ليف تولستوي» تكريمًا له.‏

ويُعد سيرغي يسينين (1925-1895) من أكثر شعراء روسيا موهبةً، ومن خلال إبداعاته، أكد الكثير من الباحثين أن الشاعر كان يعاني من حالة الاكتئاب الوجداني، ولوحظت لديه -لسنوات طويلة- رغبة في إنهاء حياته بالانتحار، ومما زاد الطين بِلَّة إدمان الشاعر على شرب الخمر.‏

وكان أول من تحدث عن جنون سيرغي يسينين هي زوجته راقصة الباليه الأمريكية الشهيرة إيزادورا دنكان، التي اصطحبت الشاعر إلى الأطباء النفسيين الأمريكيين والفرنسيين والألمان. إلا أن علاجاتهم لم تؤد إلى نتيجة جيدة. وقد أكَّد النقاد والمهتمون بكتاباته، أنه كان يعاني بالفعل من الهوس الاكتئابي، وكانت تنتابه حالات من هوس الاضطهاد بين الحين والآخر، ونوبات الغضب المفاجئة، والسلوك غير المتزن ثم تعقبها فترة من الراحة والسلام. وقال البعض إنه طُرِد من الولايات المتحدة الأمريكية بسبب «مشاجرات»، بعد أن قام بتدمير الأثاث، وتحطيم الأطباق والمرايا، وإهانة المحيطين به، وتطورت حالته المرَضية بسبب إدمانه الكحول، وقبل أيام قليلة من وفاته اشتكى يسينين من إرهاق شديد، ووصف نفسه بأنه «رجل منتهٍ». بدا أنه ينتظر الموت، ويرغب فيه، وكان يردد دوماً أنه كان مريضاً بعلل كثيرة، وأنه اكتشف هذا الأمر في سن مبكرة. ففي سن السادسة عشرة، من عمره، كتب أنه لا يعرف ما إذا كان سيتغلب على آلامه أم لا؟ ووفقًا للرواية الرسمية، قام الشاعر بشنق نفسه على أنبوب تسخين البخار في فندق بمدينة سان بطرسبرج، ومن المعلومات المثيرة للاهتمام أن لفظة «الموت» ومرادفاتها قد وردت في قصائده أكثر من 400 مرة.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية