تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


عيون زرق.. شعر أسود كائنات تائهة في سواد العالم

ملحق ثقافي
7-8-2016
إنه نص معاصر! هذا أول ما يفكر فيه قارئ «عيون زرق.. شعر أسود» للكاتبة الفرنسية مارغريت دوراس.

ولكن أين تتبدى هذه المعاصرة؟‏

إن أحداث هذا النص- الرواية، كلها تؤدي إلى فكرة جوهرية واحدة: حراسة العزلة. وليست هذه الحراسة طوعية، وإنما هي نتيجة لرداءة هذا العالم، الذي لم يعد فيه أي شيء يستحق المجازفة لاحترامه، للعيش من أجله، للاستمتاع بمفرداته.‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

هنا كائنان مغرقان في التفتيش عن الوجود، الوجود الحر، يحاولان أن يستمرا في العيش ضمن ضباب هذا العالم، ضمن همجية تفاصيله ولامصداقيته، ووهمه. يلتقيان صدفة، يبكيان من أول لحظة، ويتعاونان على العزلة. هي تسأله إن هو يتمنى الموت، وإذا كانت هذه رغبته، الرغبة في الموت. وهو لا يدرك شيئاً؛ كائن معلق ضائع ووحيد حتى الموت. أما هي فتعلن: «ليتني أموت».‏

من سينقذ من؟ كلهما لا يريدان أن يستمرا في العيش، أو في هذه المهزلة التي تسمى «حياة».‏

يأخذها معه إلى بيته على شاطئ البحر. يقول إنه يبحث عن امرأة شابة ينام قربها بعض الوقت، وإنه يخشى أن يصاب بالجنون. وكان يريد أن يكافئ تلك المرأة. كانت هذه فكرته، إذ إنه يجب أن يكافئ النساء كي يمنعن الرجال من الموت أو الجنون.‏

المرأة هي الكائن الوحيد الذي يخلص هذه الأرض من الأسى والجنون.‏

تبقى في منزله، ويستمر هو في اقترابه من حافة الجنون/ الموت. لا شيء، ربما، يمكنه أن ينقذه من هذا العالم القاسي. تنام وسط الغرفة، وحين تستيقظ تسأله: من تكون أنت؟ فيجيبها: تذكري. تتذكر وتقول: أنت هذا الذي كان يحتضر في المقهى على شاطئ البحر. أنت هو ذاك الذي كنت تعاني من اليأس.‏

هو فعلاً يعاني من اليأس، ولكنها أيضاً – تلك المرأة الفائقة الجمال – لم تستطع أن تنقذه. أو ربما تأخرت في التعرف إليه، ولم يعد ممكناً انتشاله من مستنقع الجنون والموت.‏

كل شيء مشوش في ذاكرته، الخريف على شاطئ البحر، كلماتها وحياتها الخاصة، وكل ما يحيط بهما مشوش تماماً. إن التشوش هو انعكاس لتفكيرهما ونظرتهما إلى العالم المحيط.‏

لقد تلاشت صور العالم الآنية، وكأن لا وجود لها. تطلب منه أن يغمض عينيه وأن يتذكر وجهها. يفعل ذلك ثم يقول: ما إن أغمضت عيني، حتى رأيت شخصاً آخر لم أكن أعرفه، فتجيبه: ها أنا أمامك ولا تراني. هذا أمر مرعب.‏

يقول: «لم يعد بوسع أحد أن يتعرف على نفسه ذات يوم». ويسألها من أين قدمت، ومن هي، وما هو عمرها واسمها وعنوانها ومهنتها. وهي تخبره أنها حين التقته في المقهى لم يكن وغداً ولا قاتلاً، بل كان ميتاً.‏

وتتابع: «لا أعرفك، وما من أحد بوسعه أن يعرفك، وأن يضع نفسه مكانك، فأنت لا تملك مكاناً، ولا تعرف أين تجد مكاناً. ولهذا فأنا أحبك. ولهذا أنت تائه».‏

إنه رعب الوجود برمته، رعب خلخل جوهر وجوده ووجودها، وحولهما إلى روحين تائهتين لا تدركان أين مستقرهما. لا توجد أمكنة تقبل بهما، ولا جسد يستوعب جنونهما، ولا وطن يحتمل هذا النوع من الوجود الذي لا يعترف بهوية ما لم تكن تحمي الإنسان من الضياع.‏

روحان ممزقتان، تقول هي: «تأملت وجهك حين كنت نائماً. لقد رأيتك وكأنك تنتقل من رعب إلى رعب طوال الليل». يتحدثان عن الاحتضار وكأنه شيء يلعبان به ويرميانه ككرة مطاط لبعضهما.‏

إن هذا النص الذكي يحكي عن جسامة رعب الإنسان من الوجود، يحكي عن الألم والضياع في لجة الحضارة الحديثة الضاجة بصرخات اللاهثين نحو المادة.‏

ليس للموت قيمة، وليس للحياة قيمة أيضاً، كلاهما يتساويان في عالم يلفظ أنفسه الأخيرة.‏

مارغريت دوراس: هي شاعرة وكاتبة مسرحية ومخرجة فرنسية. اشتهرت في فرنسا والعالم بالتنوع الأدبي والمعاصرة، كما كانت كاتبة للقصص القصيرة وسيناريوهات الأفلام، وهي تعتبر من أهم الأدباء الفرنسيين في النصف الثاني من القرن العشرين.‏

أول شهرة عرفتها دوراس كانت عبر روايتها «السيد في مواجهة الباسيفيك» التي صدرت عام 1950 حيث تناولت طفولتها في الهند الصينية، ولكن شعبيتها نمت بفضل المسرح، حيث أصدرت مسرحية «الميدان» عام 1962 و»أيام بأكملها بين الأشجار» عام 1968، وعرفت على نطاق أوسع عبر سيناريو فيلم «هيروشيما حبيبتي»، و»الأغنية الهندية»، ولكن النجاح الساحق لرواية «العاشق» الصادرة عام 1984 غطى على معظم أعمالها الأخرى، ونالت عنها جائزة غونكور الرفيعة، ما جعلها واحدة من أكثر الروائيين الفرنسيين المقروئين. توفيت في 11 نيسان 1996 في باريس.‏

وهذا مقطع من شعرها:‏

هذه هي النهاية، هذه هي النهاية،‏

وهذا هو الموت.‏

وهذا هو الرعب. إنني برمة بالموت.‏

أشعر بشيء ما يحدث لي: الموت،‏

وهو‏

مخيف بحد ذاته،‏

هنالك عيون مطفأة‏

أنا خائفة جداً.‏

بسرعة.‏

لا أصدق، وأعتقد أنني‏

بت لا أفهم شيئاً.‏

ما من شيء.‏

كل ما قمت به، لا شيء.‏

لا أستطيع كتابة الأشياء التي‏

تلحّ عليّ.‏

ليس بوسعك أن تفهم شيئاً أبداً،‏

وهذا هو‏

التخلف إلى حد ما.‏

أما أنا فأفهم قليلاً.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية