تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


«الحفر المطبوع» فن عريق ومهمل

ملحق ثقافي
7-8-2016
د. محمود شاهين

يُشكّل فن الحفر المطبوع، إضافة إلى الرسم والتصوير والنحت، الأركان الرئيسة في أسرة الفنون التشكيليّة. وهو فن عريق وقديم، ناب عن فنون الدعاية والإعلان والترويج والتوجيه، ردحاً طويلاً من الزمن، وذلك لامتلاكه خاصية الاستنساخ والتكرار، بوساطة المكابس اليدويّة التي بدأت بسيطة ثم تطورت، لكنها ظلت مرتبطة بيد الفنان - الحفار وخبرته، رغم اختراع المطابع وتطورها المذهل.

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

والمطابع - تحديداً - هي التي أخذت منه دوره الإعلاني - الإعلامي، ليتفرغ بعدها للعمل الفني التعبيري الخالص.‏‏

استفاد فن الحفر المطبوع من المطبعة قديمها وجديدها، حيث أدخلت إليه تقانات جديدة، وهو بالمقابل، أفادها بجوانب عديدة. من تقاناته الجديدة التي دخلت إليه مؤخراً، الطباعة بوساطة الشاشة الحريريّة، والحاسوب، ولكن أعمال الحفر المطبوع القيّمة والأصيلة والمعبّرة، هي الأعمال التي تُحضّر وتُنفذ وتُطبع يدوياً، من قبل الفنان ـ الحفار وبإشرافه مباشرة.‏‏

يعتمد فن الحفر المطبوع في نتائجه، على عملية الطباعة عن (الراسم) لاستنساخ مطبوعات مماثلة للعمل الفني، وقد أخذ طريقه إلى عددٍ كبير من كليات وأكاديميات الفنون العربيّة منذ تأسيسها خلال القرن الماضي، حيث استحدثت له ولتقاناته، شعب وأقسام فيها، أهلت ودرّبت مئات الفنانين الحفارين، ولا زالت تؤدي هذه المهمة حتى الآن، مع ذلك، لا يزال حضوره في الحيوات التشكيليّة العربية المعاصرة خجولاً، ولهذا الواقع غير المرضي جملة من الأسباب الذاتية المتعلقة بالفنان - الحفار نفسه، وموضوعيّة تتعلق بالذائقة الفنيّة الجماليّة للمتلقي العربي التي تربت عينه وذائقته، على استئناس الألوان الفاقعة والزاهية والبراقة، وعزفت عن الألوان الكامدة القليلة، كما هو سائد في فني النحت والحفر المطبوع، إذ أن المنحوتة تقتصر على لون المادة أو الخامة المنفذة بها (رخام، حجر، خشب برونز، إسمنت، بوليستر) وعالم المحفورة المطبوعة، وإلى وقت ليس ببعيد، اقتصر على الأبيض والأسود ومشتقاتهما من الرماديات، وذلك قبل أن تدخل إليه التقانات الجديدة التي أدخلت معها الألوان إلى بنيته التشكيليّة، بدرجاتها كافة.‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

من جانب آخر، نسبة كبيرة ممن دخلوا كليات وأكاديميات الفنون الجميلة ومعاهدها ومدارسها، وتخصصوا في مجال فنون الغرافيك أو الحفر المطبوع، لم يكن لهم الخيار في رفض دراسته، وإنما جاؤوا إليه رغماً عنهم، لعدم حصولهم على الدرجات التي تؤهلهم للانتساب إلى أقسام فنون أخرى.‏‏

ولأن غالبية الذين اختصوا بفن الحفر المطبوع من الفنانين العرب، غير قادرين على تأمين متطلبات ممارسته، بدءاً من السطح الوسيط (حجر، خشب، معدن، لينوليوم، شاشة حريريّة) وانتهاءً بالأحبار والمكابس والعُدد والمحترفات، فقد هجر غالبيتهم هذا الاختصاص إلى فنون تشكيليّة أخرى كالرسم والتصوير والاتصالات البصريّة (الإعلان) والعمارة الداخلية (الديكور)، وعدد لا بأس به، غادر إلى الفنون المرئية الأخرى كالمسرح والتمثيل السينمائي والتلفزيوني، يضاف إلى ما تقدم، جدة هذا الفن نسبياً، في الحيوات التشكيليّة العربيّة المعاصرة، وعدم قدرته حتى الآن، على منافسة اللوحة الحاضنة لوليمة لونيّة زاهية، قادرة على مغازلة عين المتلقي العربي وإطرابها، وبالتالي إطراب أحاسيسه وروحه التي لا تزال أسيرة لهذه الوليمة ومشدودة إليها.‏‏

والحقيقة، وعلى الرغم من أنه ليس هناك عمل فني تشكيلي أكثر تعقيداً من فن الحفر المطبوع، الذي يحتوي على جانب ميكانيكي، وفكري، وعمل يدوي، وفي نفس الوقت، يحتوي على قيم فكريّة وفنيّة رفيعة، تؤهله لتبوء منزلة متقدمة بين الفنون التشكيليّة خصوصاً، والفنون البصريّة عموماً، يملك فن الحفر المطبوع أيضاً، خاصية متفردة هي الانتشار السريع، والتوزيع السهل، بسبب إمكانية استنساخ عشرات اللوحات من الكليشه الواحدة، وهذا ما يجعل منه أداة اتصال وحوار هامة وفاعلة ومؤثرة، تتجاوز الأدوار والمهام التي ارتبطت به ردحاً من الزمن، كالتزيين والتوثيق لأشياء تاريخيّة وعلميّة ودينيّة وجغرافية وهندسية وأدبية، إذ رافق فنون الكتاب، وكان أهم وأبرز وسائل الإيضاح، في الكتب والمنشورات القديمة، نذكر منها (كليلة ودمنة) و(مقامات الحريري) وغيرها، لكن وسيلة الإيضاح الرئيسة في المقامات، جسدت مفهوم اللوحة الملونة، المتكاملة المقومات والخصائص هي (المنمنمة) التي أبدعت صياغتها ريشة شيخ المصورين العرب (يحيى بن محمود الواسطي)، تلاه كمال الدين بهزاد، ومحمد خان، وشيباني، وميراك، وميرزا علي، ومير سيد، وغيرهم الكثير، ولا زال يشتغل عليها العديد من الفنانين المعاصرين، لاسيّما في إيران، أما رائدها الأول في الوطن العربي، فهو محمد راسم الجزائري.‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

بمراجعة بسيطة لما تموج به الحيوات التشكيلية العربية المعاصرة من ضروب وألوان الفن التشكيلي، نجد أن اللوحة تتقدمها جميعاً. تأتي بعدها المنحوتة، ثم (وبخجل شديد) المحفورة المطبوعة، وحتى هذا الحضور الخجول لهذه الأخيرة، لا نراه إلا في عدد محدد من الدول العربية (مصر وسورية على وجه الخصوص) بينما تغيب كلياً، عن الحضور في الدول الأخرى، وهو أمر يستوجب البحث والتدقيق، في الأسباب والدوافع، لأن فن الحفر المطبوع، لا يقل أهميةّ عن الفنون التشكيليّة الأخرى، بل ويبزها في أحيانٍ كثيرة.‏‏

ماهية فن الحفر‏‏

يرى الفنان والباحث في علوم الفن الدكتور (عز الدين شموط) أن كلمة حفر GRAVURE وفعل الحفر GRAVER مأخوذان عن اليونانية. أما كلمة (استامب ESTAMPE) فتعني أثار خط محفور على سطح قاسٍ. للحصول على أثار هذا الخط ونقله على سطح لين ورطب كالورق أو الحرير نملأه بلون سائل، ثم نطبق الورق أو الحرير على السطح القاسي المرسوم والمحفور، ونضغط على الاثنين معاً بوساطة مكبس، وعند تفريق السطحين عن بعضهما، نحصل على خطوط الرسم مطبوعة على الورق أو الحرير.‏‏

ترد بعض المعاجم أصل كلمة (الحفر والطباعة) إلى كلمة (غرافين GRAPHEIN) اليونانية التي تعني الكتابة، ومنها خرجت كلمة (غرابين GRABEN) الألمانية التي تعني الحفر والطباعة معاً. وتحصر معاجم أخرى مفهوم (الستامب) بنوع اللوحات المطبوعة بوساطة سطح معدني محفور بطريقة (التاي دوس).‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

وتذهب بعض الموسوعات إلى اعتبار أن كلمة (حفر) تعني تخطيط رسم أو نص ما، على سطح معدني أو حجري أو خشبي، بقصد مضاعفة الصورة أو النص، عن طريق عملية الضغط على ورقة، أو أي مادة أخرى. وثمة آراء واجتهادات أخرى كثيرة، تحاول شرح كلمة (حفر) وتحديد ماهيتها، وجميعها تنتهي إلى حقيقة تقول أن هذا الفن يمر بمراحل عدة منها: الرسم أو الكتابة فوق سطح، ثم حفر المرسوم والمكتوب، وتحبيره، وضغط هذا السطح فوق سطح لين (ورق أو قماش) بهدف طباعته، ثم تكرار هذه العملية للحصول على عدد من النسخ، بهدف نشرها وتوزيعها على أكبر عدد ممكن من المتلقين. على هذا الأساس، يمكن اعتبار (الحفر المطبوع) من ضروب الرسم الهادفة إلى تكرار النسخة الواحدة، بوساطة الطباعة، مرات عديدة، لأهداف مختلفة، أبرزها وأهمها، النشر والتعميم.‏‏

أبرز تقانات الحفر‏‏

تنقسم تقانات الحفر إلى الطباعة العميقة، والطباعة البارزة، ومن هذه الأخيرة، الحفر والطباعة بوساطة الخشب التي كانت معروفة قبل بداية القرون الوسطى في الصين وكوريا، غير أن أقدم محفورة مطبوعة بهذه التقنية تحمل تاريخاً وجدت في الصين عام 868 ميلادية وكانت بمثابة رسوم توضيحيّة لقصة بوذية.‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

من الشرق الأدنى، وبوساطة الرحالة العرب، انتقلت تقنية الطباعة الخشبيّة إلى أوروبا، وأول لوحة حفر مطبوعة بهذه التقنية تمثل القديس (كريستوف) وجدت في النمسا عام 1223. بعدها انتشرت وتوسعت هذه التقنية، ووظفت بشكل خاص، في الرسوم التوضيحيّة المرافقة للنصوص في الكتب المختلفة. وبقي الأمر كذلك حتى نهاية القرن الخامس عشر، حيث بدأ هذا الفن رحلة الاستقلال عن الرسوم التوضيحيّة، والتوجه إلى مفهوم اللوحة المستقلة المعقلة والمتكاملة العناصر التشكيليّة والتعبيريّة، مثلها في ذلك مثل اللوحة الزيتيّة والمائيّة والمنحوتة.‏‏

من أبرز وأهم الفنانين الذين اشتغلوا على تقنية الطباعة الخشبيّة في أوروبا، الألماني (ألبريشت دورر 1471 _ 1586) الذي كان رساماً ومصوراً وحفاراً متفرداً، وكذلك (هولبين 1497 _ 1543) و(كراناخ الأصغر 1516 _ 1586) الذي ابتكر أعمالاً فنيّة في الحفر على الخشب بطريقة (المظلم المنير) التي تعني استخدام عدة (كليشات) من الخشب، لإنجاز موضوع واحد متدرج من النور إلى الظل.‏‏

في العام 1775 جاء الفنان (توماس بويك 1753 _ 1828) ليدخل نوعاً جديداً من الحفر بواسطة الخشب وهو الحفر على صفائح الخشب المقطوعة عرضياً من جذوع الأشجار، وقد حقق شهرة كبيرة من خلال هذه التقنية التي تميزت بالدقة،‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

ما أغرى الكثير من الفنانين لاستخدامها في نسخ وتقليد الأعمال الفنيّة المشهورة، ثم تطورت وانتشرت خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لتشمل (إلى جانب المحفورة المستقلة) طباعة المجلات والكتب ونسخ أعمال الرسم والتصوير لمشاهير الفنانين.‏‏

بعدها جاءت الطباعة العميقة بوساطة المعادن التي انتشرت وسيطرت خلال الربع الأخير من القرن الثامن عشر، حيث ارتبطت هذه التقنية بالصنعة الفنية المسماة (النيللو Nillo) والتي مارسها الصياغ الإيطاليون في النصف الأول من القرن الخامس عشر، لا سيما في الزينة المصنوعة من الذهب والفضة، وكذلك في تزيين الأسلحة وغيرها. تعتمد هذه التقنية على حفر الرسوم على الصفيحة المعدنية، ثم تُعبأ الخطوط المحفورة بمعجون أسود أو أزرق عاتم، وعبر هذه التقنية، توصل الصائغ الإيطالي (توماس فينغورا) خلال منتصف القرن الخامس عشر إلى صياغة لوحة محفورة مطبوعة بطريقة الحفر بوساطة المعادن.‏‏

ومن التقانات البارزة والهامة في مجال فن الحفر المطبوع، الطباعة الحجريّة (الليتوغراف) التي اكتشفها في العام 1798 الألماني (ألوزي سنفلدر 1771 _ 1834) والقائمة على مبدأ الطباعة بوساطة حجر الطباعة، وذلك برسم الشكل أو اللوحة المطلوب استنساخها وتكرارها،‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

فوق سطح الحجر بشكل معكوس، وتحضيرها ومعالجتها بالمواد والأدوات الخاصة، ثم استنساخها بوساطة مكابس خاصة. بعد ذلك جاءت تقانات عديدة، منها تقنية الحفر بوساطة الماء القوي، والشمع الطري. وفي القرن العشرين، استفاد فن الحفر المطبوع من التطورات التقانية المدهشة التي حققها فن التصوير الضوئي، ثم الشاشة الحريرية،‏‏

واستخدام الحفر على (الكليشات) الزجاجيّة، والحفر بالطريقة الكهربائيّة وغيرها من الوسائل التقانية المعاصرة والمتطورة التي توجها (الحاسوب) بإمكاناته وخياراته الهائلة.‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية