يتذكر (الجولان), كروم العنب, الثلج الذي يسد أبواب البيوت في شباط, أغاني الاستسقاء وأدعية المطر.
لم يحمل عند الخروج القسري من بلده شيئاً, كان الظن أن المسألة لا تعدو مناوشة, أول ما لجؤوا إليه حقول القمح, وما أدراك ما القمح في حزيران, غطتهم السنابل من الموت المفاجىء.. ثم حلوا ضيوفاً على إخوتهم في دمشق وبقية المحافظات, ولكن الرحلة طالت, ولم ينته حلم الرجوع, نعم لقد مات الجد ولكن دموعه لحظة تطابق الذكريات القديمة مع حلم الرجوع نشيج أزلي لا ينسى.
هذا التداعي لذكريات عن ذكريات الآخرين الذين حملوا أول استغاثة وأول صيحة عن الظلم الذي أحاق بهم من متغطرس دموي, سببه الرحيل الذي يشبه رحيلهم, والدموع التي تفاجىء سؤالهم: كيف وصلتم إلى هنا..??
وهذا أيضاً حال من سكنوا المخيمات, وأطراف المدن, أو سكنوا أول سقف غطى عريهم ودموعهم, أوليس الرحيل هو في كل زمان ومكان, أوليس الظالم والقاتل هو على مر عقود اغتصابه وجبروته.
بكت أم سليمان, وفاطمة, بحرقة غريبة, المآسي التي يشاهدها الناس على شاشات التلفزيون تثير دموع (الكفار) على حد رأي (أم خالد) ولكن هؤلاء يبكون فوق بكائهم شيئاً آخر.. أرضهم, وزرعهم, وبيوتهم, وصوت آبائهم على جدران البيوت, المفاتيح القديمة التي يحتفظون بها,ذكريات الرجوع.. يبكون فوق البكاء الراهن.. بكاء قديماً ظل عقوداً في وجدانهم.
نعم لقد قصفوا كل شيء, الدواب, والجرارات, والبشر الذين يمشون برتل طويل, مشاريع شهداء لم يوجهوا بندقية لصدر غادر, ذنبهم أنهم ابناء رجال يدافعون عن الوطن وأمهات رجال ولدت عيوناً تنظر إلى الجنوب المفقود.. ممنوع عليهم أن ينظروا إلى الخلف.. يجب أن يرحلوا دون نظرة وداع واحدة.
نشبه بعضنا في الرحيل, وفي الموت, وفي الطرقات المقطوعة, وفي المجازر, وحتى الدموع.. ولكن يجب أن نكسر عادة النظر إلى الموت كشيء نتقاسمه بصمت, لقد سقطت كل مدن الاندلس واحدة تلو الأخرى, دون أن تساند واحدة الأخرى في رد بعض هذا الموت, كل المدن الفينيقية وئدت وراء بعضها, وكنا نتغنى بالنهايات, لا يكفي أن تكتب شعراً حزيناً للغناء والنواح عن أخيك المطرود والمذبوح, ولا دموعك ترد قنبلة أو صاروخاً..
كما نشبه بعضنا في الرحيل والموت.. والذكريات, يجب أن نشبه بعضنا في نشيد الرجوع الأكيد.