في تلك الليلة, خفت, وأنا أنظر إلى وجهها, أن أكون بعيداً عنها, كما ابتعدت أختها, فاقتربت منها واحتضنتها, ثم ألقيت رأسي في حضنها, وسألتها:
ما الموت يا أمي?
هو شيء مرعب جداً.
إذن هو الغول.
أشد رعباً من الغول ومن كل الأشياء.
ولكن ماذا يريد منا?.
مسدت بيدها على شعري, وبدأت تحكي لي قصة شعبية ورثتها عن أجدادها. انساب صوتها كضوء القمر, وكأنه قادم من كهوف الأزل. كان صوتاً عميقاً, وحين أتذكره تدهمني رعشة احتضار الموتى.
حدثتني بأن الموت يجعل الإنسان غير قادر على أن يتحرك أو يتنفس, وأنه أيضاً سيتفسخ, ولن يراه أحد بعدها, ويجب أن يعيش الميت تحت التراب. وأنهت حكايتها قائلة: (جميعنا سننتهي هكذا. جميعنا سنتفسخ ونعيش تحت التراب). فوقفت عند هذا الحد من الأسئلة, وقد تملكني خوف مريع.
***
كلما كبرتُ كَبرتْ معي كلمة الموت. ولم يعد الموت العادي, يشكل شيئاً أمام كوارث الحروب, التي تحصد بدقائق مئات الناس. ومع هذا, يبرز أناس من تحت عباءة المغتصب الأرضي, يسمون أنفسهم (مثقفين), يدافعون عن فكرة الحرب, بدافع أنها واجبة ضد ما يسمى(الانفجار السكاني), حيث لن يجد البشر فيما بعد ما سيأكلونه, ولذلك فالتخفيف من هذا العدد الهائل من الناس عن طريق الحرب هو أمر ضروري. وطبعاً, هذه سخافة لا مبرر لها, لأن هؤلاء (المثقفين) يعرفون جيداً أن طعام كلب أو قط في مكان ما من العالم في يوم واحد, يكفي لإنقاذ عائلة على أقل تقدير من الموت في مكان آخر. وكأن هؤلاء المثقفين, كما يبدو, يريدون أن يقدموا معروفاً للبشرية, بحمل المسؤولية عنها في تسيير أمور الأرض, بما يرونه مناسباً. يا لهذا الهراء!!
ولا يكتفي الترويج أيضاً للحرب, بهذا السبب, بل قد يتجاوزه إلى ملء العالم بالحب والخير والجمال والديمقراطية. وهذا الخير لا يتم إلا عبر طريق واحد, هو قتل أكبر عدد ممكن من الناس الذين يحبون الحياة, ويرغبون في الاستمرار بها.
إنه عصر القوة, والجبروت والقضاء على كل صوت أصيل.
وإذا أردنا الوقوف قليلاً, فيما أنجزه هذا العصر المتباهي بنفسه, فسنجد: لم تتوقف الحروب يوماً واحداً; زيادة المجاعة بشكل لم يشهده الإنسان من قبل مجاعة مدروسة العبودية التي فاقت, بشكلها الجديد, عصر الرقّ; إنهاك الأبصار وصم الآذان بالشعارات الإنسانية; أصوات الأدوات الحديثة أخرستْ, إلى حد كبير, الموسيقا, حتى ليبدو هذا العصر خالياً من اللحن الجميل; سباق مجنون لعرض القوة وإخضاع الإنسان لأخيه واستلابه لحريته وكرامته; الاستمتاع بقتل الآخر, بشكل يفوق عمل الوحوش بأسلحة إبادة عالية الفعالية والفتك, تلقيها الأمم الحاقدة في شتى أصقاع الأرض; محاربة الأمم الصغيرة التي تسعى للحفاظ على نفسها بعيدة عن التلوث والحقد, ووصمها بالإرهاب لأنها تعتمد الأخلاق الإنسانية منهجاً وطريقة عيش مع الآخر.
تستطيع أن تتحدث عن الإنجازات (العظيمة) لهذا العصر حتى تصاب بالإرهاق.
كل هذا العفن وهذه الوحشية, مجرد أفكار استغلت انتباهي, وجذبتني إلى التفكير فيها, لرؤيتي الحزن الذي يتربع على وجوه أهل الأرض وفي قلوبهم.
***
هاجمني القهر, وكاد يخنقني بسمومه, حين تطور الموت, على يد محترفين, لا يهمهم إعطاء أسباب للوحشية وقتل الآخر. وهكذا فقد وصل العالم إلى مرحلة الموت العلني, من دون أن يستطيع أي عقل أن يفهم العقلية الدموية التي تحكم القتلة. ووقعت الإنسانية جمعاء قوة التهديد المسماة (الولايات المتحدة), التي ميزت العرب, وأعطتهم حصة كبيرة من مشروع الإبادة التي تقوم بها. ولكنها, وكي تبقى (ديمقراطية), فقد أعطت حصتها هي من متعة سفك الدماء ل(إسرائيل) التي أثبتت أنها لا تقل وحشية ولا دموية عن أمها العزيزة أمريكا.
يتطور شكل الموت يوماً بعد يوم, ويتطور مفهوم العرب للدفاع عن أنفسهم, حتى وصلوا إلى نتيجة مفادها, أن كل من يقاوم موته, يجب أن يعاقب بتهمة خيانة المبادئ العامة للسلام والمحبة. وهكذا فقد وجدوا مكاناً في النظام العالمي الجديد, مع أنهم لم ينتبهوا بعد, بأنهم, وبعد مرور زمن قليل سيجعلهم الموت, المبرمج من قبل أمريكا وإسرائيل, غير قادرين على أن يتحركوا أو يتنفسوا, وأنهم أيضاً سيتفسخون, ولن يراهم أحد بعدها, لأن الميت يجب أن يعيش تحت التراب, كما تقول الحكايا الشعبية.
لا أريد أن أوافق على هذا الكلام, وأريد في المقابل أن أقوي ثقتي بالشعوب, وسأرفض الموت بكل أشكاله, وسأعتبر أن العرب لا بد سيستفيقون, وسينتبهون إلى أنهم على وشك الانقراض, ولن يكون أمامهم من مفر سوى مقاومة اللدغات واللسعات الكثيرة, من خلال تقوية هذا الجسد, الذي على وشك أن يتهاوى.