فيجيبها بشكل مقتضب «منظر الثلج». وهنا وجدت نفسي أتدخل لأسأله إن كانت الفكرة قد طرأت في مخيلته لأننا في فصل الشتاء, فهز رأسه وقال «نعم». وسألته إن كان على ثقة بأن الصورة ستكون كما تخيلها بشكل مسبق فأجاب: «في أغلب الأحيان يتحقق ذلك».
يحاكي هذا الفنان الصغير في تصرفاته كبار الفنانين الذي يأنفون عن الثرثرة، ويكتفي بالإجابة بشكل مقتضب، وعلى الرغم من أنه لم يتخط السابعة من عمره, إلا أنه كان يعبر بشكل واضح عما يدور في خلده بالرسم على قطعة من الورق.
منذ أمد قصير افتتح كيرون معرضه الثاني في بلدته هولت نورفولك، ولم تمض سوى أربع عشرة دقيقة على بدء افتتاح المعرض حتى نفدت كامل لوحاته البالغ عددها ست عشرة لوحة مضيفا بذلك مبلغ 18,200 جنيهاً استرلينياً إلى رصيده المصرفي، وبقي 680 شخصا ينتظرون دورهم لعلهم يفوزون بالحصول على واحدة من لوحاته، وتقاطر عليه رواد الفن في لندن لشراء ما ينتج, كما أبدى البعض رغبته بشراء كتبه المدرسية، لكنه أنف عن ذلك. ومما هو جدير بالذكر، أن السعر الوسطي للوحة الواحدة التي يرسمها يبلغ 900 جنيه إسترليني.
يعيش كيرون في بيت متواضع مع والده كيث، الذي كان يعمل سابقا في مجال الكهرباء، ووالدته ميشيل، التي مازالت تتابع دراستها كي تصبح أختصاصية في علوم التغذية، وأخته الصغيرة بيلي- جو.
عند وصولي كان قد قدم مع والده من الخارج مرتديا ملابس لاعبي كرة القدم حتى اعتقدت أنه كان يمارس تلك اللعبة قبل مجيئه، لكنني اكتشفت ان تقديري في غير محله، حيث تبين لي انه كان يستكمل احتياجاته من أقلام الباستيل من المدينة التي تزخر بالمحال والصور المعروضة على جدرانها بهدف تسويقها.
شبهت وسائل الإعلام طفولة كيرون بطفولة بيكاسو الذي رسم لوحته الأولى في سن الثامنة، لكن كيث يقول بأنه لم يسمع عن بيكاسو إلا أن كيرون قاطعه قائلا: «إني أعرفه لكني لا أرغب بأن أكون مثله» وعندها سألته عن الفنانين الذين يتمنى أن يكون مثلهم فقال: «مونت أو إدوارد سيغو».
تدور الشكوك في أحيان كثيرة حول عبقرية الأطفال، ويتساءل البعض إن كان ما ينسب إليهم من إنتاج من فعلهم فحسب أم كان بمساعدة من والديهم، ذلك لأن من لا يعرف حقيقة عائلة وليامسون يقول بأن ثمة دعاية وترويجا لكيرون, خاصة عندما يعلمون بأن كيث يعمل في تجارة القطع واللوحات الفنية. لكن الحقيقة تقول غير ذلك، فقبل عامين اضطر كيث إلى التوقف عن عمله السابق إثر حادثة خطيرة تعرض لها، الأمر الذي دعاه للتحول إلى عمل آخر كان يمثل هواية له, ألا وهو جمع اللوحات والقطع الفنية وعرضها للبيع، وقد حال الحادث دون متابعة كيث وولده للجري الذي دأبا عليه في السابق, وأبقاهما في تلك الشقة الصغيرة المزدحمة باللوحات الفنية، وكأي طفل صغير يتأثر بمحيطه توجه كيرون إلى الرسم واتخذه هواية له، وهو الآن مع والده يتابعان التعليم في هذا المضمار. ذكر لي كيث بأن ولده كان يشاهد اللوحات على الانترنت, ويعمل على نسخها بعد أن يدخل لمساته الفنية عليها.
في البدء كان كيرون يمارس الفن بشكل جميل مثله في ذلك مثل أي طفل موهوب في الخامسة من عمره، لكنه تطور بشكل سريع, وبدأ يسأل والديه أسئلة ذات أهمية يصعب الإجابة عليها، وقد قدم له الفنان المحلي (كارول أن بنينغتون) بعض النصائح. ومنذ ذلك الحين، أخذ يتلقى الدروس والتوجيه من رسامين آخرين منهم بريان ريدر, و رسامه المفضل توني غارنر الذي وصفه بأنه كان من أفضل من علمهم في العقود الماضية الذين ناهز عددهم 1000 متدرب، لأنه لا يتكلم كثيرا، وينظر إلى العمل الفني بتمعن، ولا يسأل إلا أسئلة موضوعية، وعندما كنت أرسم لوحة أجد بأن كافة المتدربين ينسخونها كما وردت، باستثناء كيرون الذي يضيف إليها لمساته الفنية الخاصة، ويستطرد غارنر بالقول: «إن والدي كيرون قاما برعايته، وهما فخوران به وبموهبته، ويؤكدان عليه بأن يرسم ما يرغبه فقط دون أن يخضع لأي تأثير من أي جهة أخرى».
تقول والدته: «إن كيرون يتمتع بشخصية قوية، ولا يستطيع أحد إرغامه على أمر لا يرغبه، فالرسم هوايته، ويؤكد الجميع بأنه موهوب, فلماذا لا نرعى تلك الموهبة وندعمها بزيارة المعارض الفنية التي تقام في المنطقة».
سألته إن كان يرسم اللوحات وفقا لرغبات الزبائن، فأجابني بأنفة «كلا»، فقلت له هل تعني بأنك ترسم ما ترغبه فحسب، فأجابني «نعم». وسألته: إن كانت تمر عليه بعض الأوقات التي لا يشعر بها برغبة بالرسم، فهز رأسه وقال «نعم»، فقلت له: هذا يعني أنك لا ترسم إلا عندما تكون في مزاج جيد، وهمس لي بأنه يرسم حوالي ست لوحات في الأسبوع. وعندما أبديت له مخاوفي من تدني مستوى دراسته في العلوم الأخرى، أخبرني بأنه من المتفوقين في الرياضيات والانكليزي والجغرافيا والعلوم. وحين سألته إن كان يرغب أن يكون رساما محترفا أم لاعب كرة قدم باعتباره من محبي تلك اللعبة أجابني: «أرغب بالاثنين معا». لكن والدته أجابت عن ذات السؤال بقولها: «إن هذا الأمر يعود له، المهم أن نراه سعيدا سواء أراد احتراف الرسم, أم لعبة كرة القدم، وأعربت عن امتعاضها من إلحاح بعض الذين ينتظرون عرض لوحات له».
من المعروف بأن الكثير من الفنانين لا يستطيعون التحدث عند قيامهم بالرسم، لكن كيرون يختلف عنهم, حيث كان يجيب على الأسئلة وهو يرسم مما يؤكد على مدى براعته وقدراته.
أبديت إعجابي بإحدى اللوحات، وقلت له بأنها باهظة الثمن، فقال لي: «سأقدمها لك بسعر مخفض» فأبيت القبول بذلك لأني لا أرغب باستغلال طفل صغير، واكتفيت بشكره على طيب كلامه, وعلى الوقت الذي جاد به علي، وسلّمته بطاقة تحمل اسمي وعنواني، وإذ به يأخذها بكل لباقة ويدخل إلى غرفته ويعود ليقدم لي بطاقة مماثلة باسمه ويشكرني.