تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


رحيل غارودي قائد الجبهة الثقافية في مقاومة الصهيونية

شؤون سياسية
الأربعاء 20-6-2012
توفيق المديني 

رحل الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي عن العالم يوم الإربعاء الماضي ، رغم أن نبأ وفاته أذيع يوم الجمعة 15حزيران الجاري.ولد غارودي في 17 تموز/يوليو 1913 في مرسيليا (جنوب فرنسا) ،من أب ملحد و أم كاثوليكية، لكنه اعتنق البروتستانتية ، و انضم إلى الحزب الشيوعي الفرنسي في عام 1933.

و ظل وفياً لنهج الحزب الشيوعي الفرنسي منذ مرحلة المقاومة ضد النازية إلى مرحلة الستينيات من القرن الماضي. وقد انتخب غارودي نائبا في 1954 ثم أصبح عضوا في مجلس الشيوخ. وبصفته أستاذا للفلسفة، تولى من 1960 الى 1970 رئاسة تحرير مجلة «كاييه دو كومونيسم» (دفاتر الشيوعية) الناطقة باسم الحزب، ومركز الدراسات والبحوث الماركسية (1960-1970).غير أن الأحداث الكبيرة التي شهدتها أوروبا في عام 1968، تفجرت الخلافات بينه و بين الحزب الشيوعي الفرنسي الذي كان أمينه العام آنذاك فالداك روشيه ،انتهت به 1970 مطروداً من الحزب الشيوعي.‏

ليس هناك ولا يمكن أن تقوم علاقات طبيعية بين العرب و الكيان الصهيوني، ذلك أن طبيعة التناقض التناحري، والعلاقة الصراعية بينهما محكومة بنسبة موازين القوى. فما يطلق عليه اسم التطبيع مفروض بشروط المنتصر أي شروط الكيان الصهيوني ، وهذا ما حصل في اتفاقيات كامب ديفيد سنة 1979، أوسلو 1993، ووادي عربة 1994. . والتطبيع كما يستدل من السياق الذي نشأ منه اللفظ – المصطلح، أو الرمز، هو تطبيع سياسي وعسكري واقتصادي وثقافي وحقوقي، بين الأنظمة العربية والكيان الصهيوني ، وعلاقة حسن جوار، وتعايش مع العدو القومي الذي هو في طريقه إلى أن يصبح شريكاً وحليفاً وصديقاً، إن لم يكن قد أصبح كذلك في نظر بعض الحكام العرب ، من دون أن يتخلى عن تهويد القدس وكل فلسطين، واستمرار تفوقه العسكري الاستراتيجي والنوعي على جميع الدول العربية منفردة، وعلى أي تحالف عربي محتمل، دون أن يتخلى عن امتيازاته او يغير في وظيفته وبنيته .‏

ولاشك أن المنطقة العربية تخضع منذ مدة ليست بالقصيرة لهندسة سياسة الفك وإعادة التركيب لكي تخضع بالكامل لشروط ومتطلبات العدو الصهيوني ، واستراتيجية النظام الأميركي، التي تريد فرض السلام الصهيوني على العرب، وإنشاء نظام إقليمي شرق أوسطي جديد يلغي الوحدة العربية والسوق العربية المشتركة، ويحتل فيه الكيان الصهيوني مركز القيادة.‏

في هذا السياق , ومنذ سنوات عديدة لم يدخل روجيه غارودي في معركة مع الحضارة الغربية فقط، وإنما ضد الحركة الصهيونية أيضاً، الى درجة اتهامه بسبب ذلك أنه خائن للغرب. ولكن حتى ذلك الوقت كانت الانتقادات مقتصرة وموجهة ضد كتابه الذي صدر في باريس» كيف يصبح الإنسان إنسانيا». غير أنه منذ أن بدأ يهاجم « إسرائيل» بشكل مباشر في العام 1982 وبعد صدور كتابه «فلسطين أرض الميعاد » تعرض الناشر الذي قام بتوزيعه إلى تهديد مباشر، فكسرت واجهات مكتبته. ومع صدور كتابه المدّوي في عام 1996،«الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية » اشتدت الحملة عليه بصورة أكبر واتخذت طابعاً قمعياً .‏

في هذا الكتاب يفكك روجيه غارودي بناءً من الخرافات التي يرى أن عليها قامت الأيديولوجية الصهيونية، وهي الخرافة اللاهوتية الممثلة بالوعد الإلهي بأرض الميعاد، الخرافة العرفية التي تحرم الزواج بغير يهودية، خرافة معاداة النازية التي كشف فيها تعاوناً تمّ بين هتلر وبين قادة صهاينة ، منهم إسحق شامير الذي تولى قيادة «شتيرن» المنظمة الإرهابية الصهيونية بعد مقتل مؤسسها. لكن ما أثار النقمة على روجيه غارودي هو شكه بالمحرقة واتهامه للصهيونية باستغلالها والمبالغة فيها واختراعها في الأساس. هذا الشك جعله بين منكري المحرقة «Negotionstes» وهؤلاء يتهمون عادة بمعاداة السامية. ولما كان القانون الفرنسي يحرّم التعرض للمحرقة وإعادة النظر فيها فقد حوكم روجيه غارودي من قبل محكمة الجنح في باريس التي أصدرت يوم 27 شباط 1999 حكماً عليه ،بدفع غرامة مالية قدرها 20 ألف دولار، وذلك لتجرئه على التصدي بالنقد التاريخي الموضوعي والنزيه لبعض الحقائق المتعلقة بمحرقة اليهود الأوروبيين« الستة ملايين» من قبل النظام النازي، حيث فضح أساطير الصهيونية وخداعات الصهاينة، وترويجاتهم الكاذبة عن المحرقة، وفرضها على الرأي العام في أوروبا الغربية، واعتبارها مسلمة لا يمكن المساس بصحتها أو«تاريخيتها» مشيراً إلى أن هذه الخرافات قد ندد بها أساتذة التاريخ في الجامعة العبرية في القدس .‏

لقد أعطت الصهيونية رقماً مقدساً للضحايا اليهود هو ستة ملايين ، وليس لأحد الحق في مناقشة هذا الرقم . ولكن السيد بولياكوف وهو باحث فرنسي كتب أن العدد ليس ستة ملايين بل مليونان ، ولم يحاكمه أحد ، لأن الفرق بينه وبين غارودي ، هو أن الأول يهودي . وهناك المؤرخ الأميركي المعروف ايلبيرج الذي كتب يقول إن عدد ضحايا المحرقة ليس مليونين بل مليون وربع المليون ، ولم يحاكمه أحد لأنه يهودي أولاً ، وليس فرنسياً ثانياً .‏

وليست هذه المرة الأولى التي يتعرض فيها المفكر الفرنسي الراحل غارودي للمحاكمة في فرنسا هذه، أرض حقوق الإنسان وحرية الفكر والتعبير حسب الأسطورة المتعارف عليها، والتي أصبحت الآن خاضعة للاستعمار الثقافي الصهيوني، فضلاً عن أن مؤسساتها الإعلامية يوجهها اللوبي الصهيوني .‏

غير أن قوة اللوبي الصهيوني المؤثر في المؤسسات الصحافية والإعلامية والقضائية جعل الحركة الصهيونية تحصل على قانون فادح في العام 1972، حيث كانت منظمة « الليكرا » ممثلة الوكالة اليهودية في فرنسا - متذرعة بحجة النضال ضد اللاسامية – تمتلك السلطة المفرطة في تعيين من هو سامي، ومن هو معاد للسامية . كما أن قانون جيسو-فابيوس هو قانون عنصري، لأنه يستبعد كل البشر عدا اليهود ، ولأنه يناقض الحس السليم .‏

وبهذه الطريقة هاجمت منظمة « الليكرا » غارودي عندما ندّد مع الأب ليون والقس ماتيو بمساعدة جاك فوفيت مدير جريدة لوموند بالغزو الصهيوني للبنان عام 1982. وكما هو الحال في منطق النظام الصهيوني رفعت هذه المنظمة دعوة قضائية ضد غارودي وصديقيه على أساس أنهم معادون للسامية . وهنا كان القضاء الفرنسي واضحاً جداً، إذ خسرت » الليكرا « الدعوة ثلاث مرات، في محكمة الدرجة الأولى في باريس، وفي محكمة الاستئناف، وفي محكمة النقض. وكانت حيثيات المحكمة واضحة جداً.إذ تقول : النقد المشروع لسياسة دولة « إسرائيل » والأيديولوجيا التي تقوم عليها، أي الصهيونية ، لاعلاقة له باللاسامية، والحال هذه تعني إدانة هذه المنظمة » الليكرا « ثلاث مرات وإجبارها على دفع نفقات ومصاريف الدعوى القضائية .‏

إن اللوبي الصهيوني قوي في فرنسا ، و قد تشكل في سياق تنامي قوة الحركة الصهيونية العالمية التي كان مركزها أوروبا الغربية حين كانت الرأسمالية مركزها هناك، قبل أن تنتقل إلى الولايات المتحدة حين انتقل مركز ثقل الرأسمالية الاحتكارية إلى أمريكا عقب الحرب العالمية الثانية .‏

فاليهود يمتلكون أكثرية تلقائية في مجلس الشيوخ، أي مايعادل 70 شيخاً تقريباً يدافعون بصورة مطلقة عن مواقف « إسرائيل »، ولكن اليهود يمتلكون بشكل خاص سينما هوليود . فحين أدان مارلون براندو ممارسة وعنصرية اليهود تم وصفه بضعيف العقل وأجبر على استدراك ونقض أقواله السابقة والاعتذار أمام التلفزيون. فهو نموذج صارخ على هيمنة اليهود ، حيث نجد شبكة » سي، إن، إن « التي لها سيطرة عالمية شبه مطلقة على الإعلام قد غطت أحداث ووقائع حرب الخليج الثانية، وكان الناس يتابعونها من بيوتهم . ولكن أثناء مجزرة قانا في عام 1996كان هناك مخرجان من شبكة »« سي، إن، إن» بدأا يصوران وقائع القصف، وفجأة توقف بث برنامجهما ، واستبدل بمقطع من فيلم المحرقة للكاتب الفرنسي كلينسمان باعتباره فيلماً نموذجياً تم تمويله من قبل ميناحيم بيغن بكلفة 850 ألف دولار. ويعتبر هذا الفيلم مصلحة قومية عليا في « إسرائيل »، وبهذا نحصل على مثال نموذجي من التفكير الذي يسمح بطمس الحقيقة.‏

لكن الأمر الذي أغضب الصهيونية والغرب ، وهذا الشيء الجديد هو فضح روجيه غارودي لعلاقات التعاون الوثيقة بين القيادات الصهيونية المعروفة جداً مع هتلر إبان الاحتلال النازي ، سواء فيما يتعلق بمقاطعة المقاطعة أولاً ، أي منع مقاطعة هتلر عبر خلق نظام يسمح لليهود الأغنياء بالاتفاق مع بن غوريون وغولدا مائير وكل الوكالة اليهودية بإيداع أموالهم في بنك برلين على أن يتم استعادتها لاحقاً عندما يذهبون إلى فلسطين، وثانياً لأن غارودي أظهر كيف أن الاهتمام الرئيسي للحركة الصهيونية العالمية إبان الحرب العالمية الثانية لم يكن منصباً على إنقاذ اليهود الفقراء، وإنما بكل بساطة كان معنياً بخلق دولة صهيونية قوية، وكان هذا هو شغلها الشاغل، واعتبار الفقراء من اليهود فقراء لا أهمية لهم في خلق دولتهم .‏

لهذه الأسباب مجتمعة تعرض غارودي لهجوم عنيف من جانب الحركة الصهيونية العالمية، فضلاً عن أنه كان معروفاً اكثر من الآخرين الذين سبقوه في نقد الحركة الصهيونية أولاً، ولأن الأب بيار وضع كل ثقله وشعبيته في الدفاع عن مواقفه ثانياً . ولأن الفيلسوف روجيه غارودي اعتنق الدين الإسلامي في عام 1982 وتزوج من مسلمة، لأن الإسلام كما يراه لا يعني الاستسلام والجبرية بل يعني الاستجابة لنداء الله، استجابة حرة نشطة ومسؤولة، كما أن الإسلام في نظره يقدم تصوراً معقولاً ومتكاملاً للكون والإنسان والحياة والله، كما أن تشريعات الإسلام تلائم طبيعة الإنسان والحياة ملاءمة تامة، فضلاً عن انفتاح الإسلام للعقائد التي سبقته وانفتاحه على الثقافات الأخرى والعلم والفلسفة. مع ذلك انتقد روجيه غارودي الأصولية الإسلامية واعتبرها كالأصولية الرومانية والأصولية الإسرائيلية آفة.‏

وفضلاً عن كل ذلك، فإن غارودي يربط ربطاً وثيقاً وجود « إسرائيل » بالأيديولوجية الصهيونية . ولأن الأيديولوجية الصهيونية تقوم على عنصرية متماثلة مع الأيديولوجية النازية، حيث يشكل مفهوم شعب الله المختار أخطر مفهوم في تاريخ البشرية . وهذا المفهوم يقوم على أساس قبلي منحاز.وانطلاقاً من هذه المفاهيم الكاذبة، تكونت مفاهيم سياسية بالنسبة « لإسرائيل » وهي حجة يستخدمها الصهاينة لكي يضعوا أنفسهم فوق كل القوانين البشرية .‏

وانطلاقاً من هذه الرؤية تمثل الصهيونية السياسية في نظر غارودي بما تحمله من أفكار معروفة ، مذهباً عدوانياً وعنصرياً لابد من مواجهته. لكن علينا أن نميز بين اليهودية كدين وبين الصهيونية السياسية التي تبحث في الدين عن مبررات لها، ومما استند إليه مؤسس الصهيونية تيودور هرتزل الذي يقوم مفهومه للصهيونية على أساس النزعة الاستعمارية الاستيطانية العدوانية التي تتجسد في أبشع صورها في الكيان الصهيوني .‏

 كاتب تونسي‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية