تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


وصمة فيليب روث

كتب
الأربعاء 20-6-2012
باسم سليمان

أوديب الذي هرب من قدر/ هوية، لم يكن فراره إلا لقدره/ هويته؛ كذلك «كولمن سيلك» الأسود، لم يكن أسود بقدر ما كانت جذوره سوداء والتي تلقحت بجذور بيضاء،

ما أمّن له أن ينجز محو هويته السابقة بهوية جديدة ويقطع معها قطعا تاماً أن يستنبط جذوره البيضاء ويتسلق المراتب الاجتماعية ليصبح عميداً لجامعة « أثينا» ولكنه هو المفتون باللغة التي تعلمها عن أبيه وصقلها لحد الهوس، يتلفظ بكلمة صغيرة « spooks» أي «أشباح» بحق طالبين تغيبا عن دروسه وهذه الكلمة ذات الهويات المتعددة تحمل بطيتها ازدراء بحق الجنس البشري الأسود‏

وهنا يبدأ هروبه السابق وكأنه عودة؛ لكن كما قال «كريون» لأوديب عندما سأله: ما هو طقس التطهر، فيجيب كريون: عن طريق نفي الإنسان أو دم بدم؛ لعنة الدم تلك التي كالبصمة أو كاللطخة تظل عالقة بك مهما حاولت شنق نفسك بهروب تلو هروب!؟.‏

الهويات تقتل وتسجن وتنفي وتختصر تاريخ الإنسان وهي بنية البنيات في اللغة، فيليب روث يعالج بروايته « الوصمة البشرية « مشكلة الهوية والهوية ليست « الأنا» بل شرايين وأوردة هذه الأنا من دين وطبقة اجتماعية وذكر وأنثى ولون بشرة وتاريخ وكل هذه الشبكة العنكبوتية التي تنشأ بين ال» نحن» وال» الهم» والمجتمع الأمريكي ككل.‏

كولمن سيلك أو سيلكي سيلك، الملاكم، هو ذاته الذي كان على الحلبة، يجيد تسديد ضربات قاسية بحق اللاعب الآخر؛ لكن على أرض الواقع، كان مكبلاً بسره، في الحلبة لا أحد يهتم بسره الكبير أنه من العرق الأسود؛ لذلك كان قادراً على هزم منافسيه تلك الحقيقة كان يعيها كولمن، فأنشأ عالمه على صدفة سلحفاة تحتفظ بهذا السر لكن كما في القصة تصل السلحفاة لخط النهاية.‏

نجح بهويته الجدية، لولا تلك الكلمة «spooks « التي دمرت إنجازه، زوجته توفيت وقدم استقالته من الجامعة وانزوى على نفسه، غاضباً، ناقماً إلى أن يتعرف ب» فونيا فيرلي» التي ربما من خلالها حاول أن يضرب بقوة الحائط الذي صنعه وحجب به حقيقته ؛ لكن هويته الجديدة تلاحقه تضيق الخناق حتى تقتله.‏

هل كان لوحده في ذلك؟ يبدو الجواب من خلال الشخصيات التي عرفها، فكلها في الحلبة منها من ينتهي بالضربة القاضية ومنها من يناور حتى اللحظة الأخيرة كأبيه الذي خسر كل شيء لينتهي نادلاً في مطعم على قطار، ليموت هناك، أمه وأخوته، فونيا الهاربة من تحرشات زوج أمها ومن القسوة الهائلة للجندي الأمريكي العائد من حرب فيتنام « لِس فيرلي» الذي يريد أن يقتل هوية الجندي و» دلفين روكس « الفرنسية التي لوهلة اعتبرت نفسها ناجية من إرث عائلتها الفرنسي ومن أمها وآخرين في هذا المسرح «التراجوكوميدي» حيث دلالة الجامعة « أثينا» وكون كولمن أستاذ الكلاسيكيات المتخصص بالأدب اليوناني واللاتيني والذي يدرس المسرحيات العظيمة، كذلك أبيه المولع بشكسبير وتشوسر؛ هكذا صاغ روث روايته بحرفية عالية كل كلمة وجملة واسم يحمل دلالة، ف» والتر» الابن الأكبر يشبه «أنطونيو» وكولمن «بروتس» والأخت « كالبورنيا» أو أنتيغونا» لا فرق.‏

المكر‏

فيليب روث، يتلاعب بكل شيء، يتهكم من اليقنيات يسخر من الحقائق وكأنه يصرخ ما هذه القناعات القاتلة!؟؛ لذلك يجعل القارئ يتعاطف مع شخصية ويكره أخرى ومن ثم يكشف الغائب عن ذهن القارئ وأحكامه المسبقة التي بناها على أساس رواية روث من خلال شخصيات الرواية، فيعيد قلب الموازين حتى من كنتَ تكره، تتعاطف معه « لِس» الجندي المجنون ينضح إنسانية أمام حائط الذكرى لرفاقه الذين ماتوا في فيتنام. « دلفين روكس» التي تكره كولمن، يكشف لك عقدها لتكاد تحنو عليها. فونيا وكولمن ذاته وبقية الشخصيات؛ ينجز هذا المكر بسرد دقيق يدخل عمق الشخصيات يحللها وكأنه عالم نفس يبين تاريخها وكأنه أركيولوجي وعالم إناسة. يقشر اللغة بدالها ودلالاتها، يصف كرسام ويعرف الكثير عن عالم الحيوان وخاصة الغربان، يمتلك شعرية تجعل كناياته واستعاراته ومجازاته رائعة ومندمجة في السياق كأنها هي السياق.‏

رواية الرواية‏

إنها ليست رواية عن كولمن سيلك بل عن الراوي « ناثان زوكرمان» الذي تعرف على كولمن وطلب منه الأخير أنْ يكتب قصته التي حاول أن يكتبها بعنوان « spooks» زوكرمان الذي يعيد اكتشاف منطقته ومجتمعه وبلده عن طريق بحثه عن من قتل كولمن؛ هل كان حقا « لِس فيرلي « زوج « فونيا «؟، يلتقيه زوكرمان ويسأله « لِس» أن يرسل له نسخة من الرواية!؟.‏

الأسلوب‏

حشد فيليب روث في روايته الجمالي والفلسفي والتأملي وناقش فكر كونديرا والأساطير اليونانية والمجتمع الأمريكي المشغول بفضيحة مونيكا وكلينتون وبذلك استطاع من خلال أسلوبه الدقيق والعميق والرؤيوي أن ينجز بانوراما عالية الدقة عن المجتمع الأمريكي تقريباً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى نهاية هذا القرن مع تفرعات تصل للهجرات الأولى لأمريكا، وكأنه بذلك يكتب تاريخ أمريكا أو تاريخ ما ادعينا تسميته الحداثة وهي بالنسبة له حداثة زائفة!؟. تكمن أهمية الرواية بتعريتها مفهوم الهوية وسخريتها من تلك البروتوكولات الإنسانية التي لا تزيد الإنسان إلا استعباداً لنفسه ولغيره.‏

يلقب بشيخ الرواية الأميركية المعاصرة، لمع نجمه مع نوفيللاه «وداعاً كولومبس» التي فازت بجائزة الكتاب الوطني وذاعت شهرته مع روايته « شكوى بورتنوي» وفاز عن روايته « الوصمة البشرية» بجائزة فوكنر.‏

قامت المترجمة والشاعرة فاطمة ناعوت بترجمة الرواية» الوصمة البشرية» الصادرة عن الهيئة المصرية للكتاب، سلسلة الجوائز.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية