وكان هذا المسرح هو المسرح الوحيد المتاح لتغني فيه مطربة بحجم أم كلثوم، كوكب الشرق كما كانت تسمى، وقد تسللت الى المسرح عبر سور المدرسة، فقد اعتليته وقفزت فصرت بين الحضور، واقفاً طوال الفترة الطويلة التي غنت فيها أم كلثوم عدداً من أغانيها القديمة، ولقد شاهدت أم كلثوم كثيراً بعد ذلك خلال زيارتي الى مصر على مسرح الأزبكية، وكنت شاهدتها وسمعت صوتها الشجي في دمشق ثانية عندما غنت على مسرح سينما دمشق، فكان حضوري وسماعي لأم كلثوم مبعث فخر لي طوال حياتي، فقد شاهدتها، بوقفتها بكبرياء أمام تختها ووراءها القصبجي بعوده الذي يعزف عليه، وبيدها منديل أبيض تمسكه كلما غنت.
شاهدت مطربين كثيرين في حياتي، بينهم المرحوم الدكتور محمد عبد الوهاب، وأول مرة شاهدته وسمعته، وقد كنت صغيراً، وفي الثلاثينات من القرن الماضي عندما غنى في مقهى ديب الشيخ في محلة القزازين بدمشق، فتسللت سور المقهى ليتسنى لي رؤية المطرب، وقد اعتمدت على شق في الشادر الذي ضرب على سور المقهى لأرى عبد الوهاب، وهو يغني وكان عمال معمل في المنطقة نفسها قد صعدوا الى سطح معملهم وراحوا يتابعونه، وينصحون بأداء أدواره الغنائية التي لم تكن قد دخلها التجديد الذي تبناه عبد الوهاب بعد ذلك وخاصة في أغانيه من أفلامه.
كان هذا النوع من المشاهدة للمطربين والمطربات هو السائغ لأبناء جيلنا، في مطلع حياتهم، اذ لم تكن الاذاعة قد التزمت ببث أغنية مطلع كل شهر لأم كلثوم، وأغاني عبد الوهاب ومطربي ذلك الزمان، القديم والجميل ، غير أن الطفرة الهائلة في وسائل الايصال الى الجماهير من كاسيت، وإذاعة وتلفزيون وانترنت، حجبت متعة المرء بمشاهدة المطربين على المسارح وفي الأماكن التي يغنون فيها، لقد تطورت المشاهدة فأصبحت فردية، بعد أن كانت جماعية، وتطورت فصارت وسيلة تكنولوجية، بعد أن كانت تعتمد على العرض الصوتي الذي اتكأ على المايكروفون فقط، في حين ظلت المتعة شخصية فكأن المطرب كان بيننا لك وحدك.
ولست أدري أين ستقودنا التكنولوجيا بعد ذلك في هذا المجال؟