الذي بقي ثـابـتاً منذ ذلك الوقت ، و منذ أن وقعت عليه الأصابع الفلســطينية ، هو شـرعـية الاحـــتلال باعتراف فلســطيني لا لـبــس فيه ، تلك الـشـرعية التي حسمت الجدل على المستوى الــدولــي حـول جـوهـر الكيان الصهيوني ، كاستعمار استيطاني ، أو دولة طبيعية تتمتع بحقوق و امتيازات كل دول الأرض ، حتى و لــو لم تعلن حـدودهـا بعد في جهاتها الأربع ، أما الذي لم يثبت ، و لم يصرف في أي سـوق سـياسي معني بالصراع العـربي الصهيـوني إلا من حيث الشكل ، فقد كان الاعتراف الصهيوني بالمنظمة كممثل للفلسطينيين ، حيث تحول هذا الاعتراف مع الوقت إلى هدية ملغومة لا تعرف المنظمة كيف تفككها و تتقي شرها ، و لا كيف تعيدها إلى أصحابها ، فـراحت تتفاوض حول ترجمتها و تفســيـر معناها على مدى العقدين الفائتين ، و بعد كــل جــولــة تـفـاوض تجـد نفــسها و قد عـادت إلى الصفر ، و خلفها لا شـيء سـوى جدار من المستحيلات !
العقل الصهيـونـي المـاكـر الذي انـتـزع الاعـتراف بشرعيته كدولة طبيعية ، هذا العـقل وضع في حسـابـه معادلة بسـيطة و منطقية تقول : إن من طوَّب لي حيفا و يافا و القـدس الغـربية بـرفة عين ، سـوف يأتي الوقت الذي يصبح جاهزاً فـيه لنفض اليد من بقية فـلسطين ، و لكي يصبح جاهزاً في أمد قريب ، فعليَّ أن أوسـع خـرائـط الاســـتيـطـان حتى أصل إلى عتبات البيوت الفلسـطينية الباقية ، و حين تعاند البيوت و ســكانها فأوامر الطرد و المصادرة كفيلة بتصفية الحــســـاب ، و ســـلاح الجو و لواء غولاني هو آخر الدواء حين تتفاقم الأمور !
منذ التـوقـيـع على اتفاق أوسـلو إلى اليـوم ، فإن من ينظر إلى الخـريطة الفلسطينية ، كيف كانت و كيف أصبحت ، يـدرك أن العـقـل الصهيـوني الماكر قد قطع شـوطاً طـويلاً على طريق تحقيق معادلته التي دارت ساعته على إيقاعها في العقدين الفائتين ، و حكوماته العنصرية كمَّلت بعـضها من يمين مقنّع إلى يمين ســافــر ، و من جـنـرال عـاشـق للمجازر ، إلى جنرال مسكون بغـريـزة الـقـتـل منذ تفتحت عـيناه على الضـوء ، و هـؤلاء جميعاً لم يقفلوا يـوماً باباً للتفاوض ، لكنهم كـانوا يقفلون دوماً كل نافذة للحل ، لأن التفاوض فرصتهم لاســتـثمار الوقت ، و الحل في رؤوســهـم لا ينضج إلا عـنـدما يكـتمل الطوق حول عنق فلسطين ، و تصبح رام الله مثل حيفا ، و نابلس مثل يافا ، فالأسماء كلها فــلسـطينية ، و المدن كلها فلسطينية و من امتلك مفاتيح القدس الغربية لن تستعصي عليه مفاتيح القدس الشرقية ، و الزمن يمشي باتجاه هذه الرياح ، و الساعة العبرية تمشي مع هذا الزمن !
بين أن نفاوض أو نعلن الحرب ، مسافة قابلة للتأمل ، حان للإخوة الفلسطينيين أن يرابطوا فيها ، فإن لم تكن الحـرب ممكنة تحت وطأة ميزان القوى القائم اليوم ، فالتفاوض أصبح انتحاراً ، نهدي فيه الـزمـن لـمـن خـبـرنا كيف يسـتـثمر الزمن على الأرض ، و يلقي بنا و بترابنا خلف الذاكرة ، و يقتحم علينا بالحـواجـز غرف نومنا ، فعلى أي شيء سـوف نفاوض بعد الآن ، على الـمــوت ذبحاً أم على الـمــوت رمياً بالرصاص ؟؟ ، و ماذا يحدث لو عدنا إلى ذواتنا في الوقت الـفـاصل بين الـتـفـاوض المستحيل و الحرب المؤجلة ، و رجعنا بالقضية إلى قواعدها الأولى ، و اسـتـفـتـيـنـا وطننا الذي لم يبارح مكانه بين البحر و النهر ، فلعله ينعش فينا الذاكرة ، و يعلّمنا الدرس الذي كدنا ننساه ، و القائل إن صاحب الوطن لا يفاوض على ترابه و لو أسلم الروح .