فإذا استمع إليك فليس من باب التفاعل والمشاركة بل من باب (إظهار) أنه على درجة محترمة من الديمقراطية.
في ندوة عقدت في إحدى جامعات هذا القطر شارك فيها نقاد أكاديميون ومدرسو نقد أدبي وطلبة مجدون، يعدون لنيل الدكتوراه في النقد الأدبي الحديث.
في هذه الندوة توقفت عند أن ثمة مصطلحات واحدة تتكرر على لسان الجميع وهي تدل على أن ثمة زاداً أكاديمياً ،غير أن عدا قليل منه يفتقر إلى التمايز وإلى حضور القارئ الناقد في فهم النص واستجلائه، والمصطلحات قد تكون واحدة ،وهذا لا يعني أن التلقي واحد ولا الحساسية واحدة وهكذا افتقدنا التنوع ودخلنا في نمط الانتاج الواحد والرؤية الواحدة ومثل هذه لا يستساغ حتى حين نكون متفقين على أن ثمة شيئاً جميلاً وباهراً، إذ لابد في النقد من ظهور تلك الفروق الفردية حتى في تحسس مواضع الجمال وإلا نكون قد خرجنا من أفق الجمال ودخلنا في نفق رقمية جديدة، ومثل هذه الرؤى النقدية تدخل النص الشعري عوالم الموت والشعر والإبداع بعامة نبض حي، وموران وتجدد وتوغل في الحياة ما استطاع الضارب في تلك الأسفار أن يتوغل وما يكاد يملأ الساحة هو (قولبة) فولاذية لا أثر فيها لنداوة الحياة.
ترى من أين تحدرت تلك القولبة وإلى أين وصلت؟
الذي قد لا نختلف فيه كثيراً أنها جاءت وريثة للقولبة الأيديولوجية المغلقة، نقول (المغلقة) لسببين:
الأول: عدم إمكانية النفاذ من الأيديولوجيا حتى بسلطان لأن الخلاصة في هذه النقطة أن اللاأيديولوجيا هي أيديولوجيا.
السبب الثاني: وهو إمكانية أن يقتنع الإنسان بأيديولوجيا فيؤمن بها وذلك شأن يخصه وحده والناس في هذا مختلفون منذ بدء الخليقة وكما تختلف الأذواق تتفاوت المفاهيم وتختلف ولا ضير شريطة أن لا يصادر الأيديولوجيات الأخرى، وبهذا الانفتاح تدخل الأيديولوجيا رحابات التفتح وفضاءات ما هو إنساني وهي ذات الفضاءات التي يتحرك فيها الإبداع الأصيل نصوصاً ونقداً.
عند هذه النقطة قد يكون من المفيد الإشارة إلى ظاهرة في النقد وهي كثرة الاستشهادات بآراء النقاد الغربيين ولست أشكك في قيمتها وبعد نظرها وعمق ما وصلت إليه، غير أننا حين نكتفي بالامتياح من آبارها فهذا يعني أن ليس ثمة ماء في آبارنا والنقد الحقيقي ليس استعارة هذا الميزان أو ذاك لنزين به، بل هو سفر في النص وحساسية وكشف لمخبآته وأن يعود الناقد من ذلك الغوص بشيء من لآلئ العمق وحتى حين لا يجد غير الأصداف فإنه يدلل على أنه غواص ماهر وأن العلة في الأصداف التي عثر عليها لافي قدرته على الغوص والالتقاط.
إن الاستشهاد بآراء النقاد وتمديد النص بجانب تلك الآراء مسطوحاً يكاد يبدو غريباً مسجى كوسيلة إيضاح أو كشاهد غير مفصح.
فهو حاضر في العنوان غائب في التفاصيل وحين تتسع الفجوة الصماء بين النص والدراسة النقدية، فهذا يعني أن الناقد لا يمتلك الحساسية العالية في تلقي النص، وفي ترجمة ذلك التلقي ترجمة نقدية (إبداعية) تفتح أمام القارئ آفاقاً جديدة تستجلي وتكشف وتبين أماكن الإدهاش وتبرز مواطن الجمال وتثير متعة الإلتذاذ الفني.
في فترة من الفترات سيطر على النقد الأيديولوجي ذي الاتجاه الواحد وكان بوليسيا لدرجة الاعتقال أو النفي أو الطرد وخرج على الناس بأفكار وآراء هي صادقة طبقياً غير منصفة بل ومتحاملة جمالياً.
لنراجع تلك الفترة فهل نعثر على ناقد مؤدلج قدم دراسة عن بدوي الجبل أو عمر أبو ريشة؟
أعتقد أنه إذا وجد شيء من هذا فعلى قلة نادرة، ليس لأن نصوص هذين الشاعرين وأشباههما غير جديرة، بل لأنها لا تتطابق مع القالب.
كان الحضور الفاعل لهذه المدرسة حضوراً سياسياً بامتياز ارتبط بصعود نجم المنظومة الاشتراكية ولست أقلل من قيمة الأفكار النقدية التي طرحها النقاد الماركسيون، غير أن الحضور السياسي كان هو الأقوى ودليل ذلك أنه بانفراط عقد تلك المنظومة تراجع حضور هذا النقد لدرجة الغياب وورثنا عنه وعن موروثاتنا القبلية والمذهبية ما ظهر منها وما بطن ورثنا كل صبغيات التعصب المقولب.
أعتقد أننا لا نبعد عن الحقيقة حين نقول إن أحد أسباب تقدم الغرب الفكري وتعدد مذاهبه وقدرته على الإبهار فيما ينتجه هو أن الناقد أو المفكر يستطيع أن يقدم أفكاره دون خوف من الإحالة إلى محاكم تفتيش عصرية ودون خشية من صدور فتوى بتطليق زوجته منه.
ما يمثل الآن على الساحة بقوة هو حضور النقد الألسني ولست أقلل من دور هذه المدرسة فيما قدمته بيد أنها بحسب ما نقرأ من نقد يعتمد أسس هذه المدرسة تحيل النص إلى هيكل مفصل وتضعه لغوياً ودلالياً على خارطة من التشريح الدقيق، فيبدو النص وقد سحبت منه روح الحياة الإبداعية والإبداع ولاسيما في الشعر الذي يتقصد إثارة الدهشة وتحريك المشاعر وتقديم اللطافات واللدانات التي تتهاطل لتندية قيظ رحلة تبدو أنها أحوج ما تكون إلى ما يؤنسها ويؤنسنها.
أعتقد أن المخرج الوحيد من تلك الخانة هو في النقد الجمالي الذي يفتح سماوات واسعة للناقد ليخرج من حدود أنه حامل محضر، ليكون مبدعاً بحق في تلمسه وفي تلقيه وفي سفره في النص المدروس وهذه الرحابات المشار إليها هي المناخ المناسب للتعددية المبدعة الفعالة لا التعددية (الشكلية) التي تتحرك على أرضية ظاهرها التخطي والخروج، وهي في حقيقتها تنبت في أرض تختزن كل مواصفات الموروث العاتم الذي يشدنا إلى الخلف.
في سياق ما نتحدث عنه من مثول أيديولوجي ونحن نتحرك في فسحات معطيات الواقع، لعل سؤالاً محقاً يرد إلى الذهن وهو أن القوى السلفية بما هي عليه كحامل للمنجزات الصالحة لكل زمان ومكان كما تقول وبما لها من عودة إلى ساحة الحياة تنظيماً وترويجاً وبرمجة بعيدة المدى وحضوراً واسعاً وشارات دالة على تحقيق شيء من النجاح على حساب إخفاق القوى التقدمية العلمانية، هذه القوى بما هي أيديولوجيا أين هو حضورها النقدي الثقافي؟
عند هذه النقطة يمكن القول: إن هذه القوى غير مهتمة (الآن) بمسألة النقد لأنها منهمكة في مسألة استقطاب الناس كما أنها غائبة تماماً عن المشهد الثقافي الذي ما زال معظم مثقفيه من الذين يمكن تصنيفهم أنهم لا ينسجمون مع الأفكار السلفية، هذا إن لم يكونوا رافضين لها يضاف إلى ذلك أننا نستطيع القول إنهم (المتشددون دينياً) حين تكون الآفاق بيدهم فلن يكونوا أرحم أيديولوجياً من غيرهم، فالتعصب هو التعصب والتشنج هو التشنج والذين لا يرون إلا من الثقوب المفتوحة للرؤيا يظلون أسرى تلك الثقوب لا فرق أن يكون هذا الثقب من هذه الجهة أو من تلك.
أعتقد أن مراجعة بصيرة في المواقع المؤهلة الفاعلة يمكن أن تخرج برؤية متوازنة بالغة الفائدة على المستويين النقدي
al-naem@gawab.com"والفكري.
al-naem@gawab.com