تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


كل أربعاء...عوالم خيالية

كل أربعاء...
الأربعاء 25/6/2008
سهيل إبراهيم

لا يستقيم نشاط العقل دون أن يمعن في الخيال,والعقول التي لا تمارس رياضة الخيال هي عقول صماء, كمستوعبات البرامج الذكية التي يختنق بها عالمنا اليوم, تدور حول تفاصيل متناسخة لأيام متناسخة, وعمر جامد, تمر عليه الحياة, كمرور الهواء على الصخور الصلبة.

رجال السياسة يتخيلون, لكنهم يضبطون خيالهم على إيقاع الواقع, ويحتكمون إلى الممكنات, فالقفز فوقها قد يسوق خطاهم إلى المهالك ...يستلهمون من الوقائع الجامدة مشروعهم لتطوير الحياة, لبنة فوق أخرى, ويسترشدون بالتاريخ وحقائق الجغرافيا, ولغة المصالح على يابسة تتقاطع فيها حاجات البشر وتتعارض وتنسجم, فتستولد الحروب الدموية,أو ترسم التحالفات والتكتلات الهشة أو القابلة للحياة.‏‏

رجال الاقتصاد يجنحون إلى الخيال, حين يضعون حجر الأساس لخططهم الخمسية, أو العشرية لكنهم يعطون الأولوية للأرقام, وأعينهم على حركة السوق, ومخاطر البورصات, وتقلبات أسعار العملات الصعبة, ورواج السلع, وحاجات المستهلك واحتمالات الحروب وما تسفر عنه من خراب, يستدعي إعادة الإعمار, ورسم الخرائط لبنى تحتية حديثة.‏‏

المحرومون يشتعل خيالهم كلما ضاقت حولهم الأرض, وترنحت أمالهم تحت سوط الاستغلال, ونأت عن أنوفهم روائح الخبز, وجفت في حقولهم ضروع الشجر, وطاردهم السوق بأفاعي الغلاء..إنهم يتخيلون قمر الرغيف, يضيئ في لياليهم على موائد تكدس فوقها الغبار, ويرسمون في فضاء الأوهام أشكالاً لقمصان بيضاء, وأسرّة دافئة, وتذاكر سفر إلى جزر خضراء يصطاف على سواحلها ملوك المال, وجواريهم الطالعات من الماء كحوريات البحر.‏‏

العشاق يطلقون العنان لخيالهم, يغمضون أعينهم على وسائد ملونة, ويستحضرون وجوهاً وأغنيات, ومواعيد تصدق أو لا تصدق, ينسجون في الخيال أثواباً زاهية الألوان, وفساتين زرقاء يعقدون على خصرها زنانير بلون الأرجوان, يهدونها في الحلم للقامات الموغلة في الغياب, والمأمولة على رصيف مأمول! في شارع مأمول, في مدن لم تتضح معالمها بعد, إلا في الخيال.‏‏

الطغاة لهم خيالهم أيضاً,أحرقوا روما مرة, وقادهم خيالهم إلى بغداد, فأحرقوا فيها التاريخ, ونسفوا بالديناميت صروح بني العباس, دائما يجنح بهم الخيال إلى المجازر, كل الألوان لديهم حمراء بلون الدم, وكل البشر مرشحون في خيالهم للعبودية, وكل الغابات ملاعب لكلابهم يصطادون بها طلاب الحرية, فيشترون من يعلن سعره في السوق, ومن يستعصي على البيع يهدرون دمه..يتحول خيالهم إلى وهم يعتقدون من خلاله أنهم يملكون العالم, وحين يموتون وينطفئ خيالهم يدركون أو لا يدركون أن التراب امتلك رفاتهم, ولم يبقى منهم سوى روائح الدم, وصور الخراب, وأنات المظلومين, وفواجع عمرهم المظلم.‏‏

وحدهم الأدباء والشعراء والفنانون, يحررون خيالهم من ضوابط الواقع, ومرجعياته الصلبة, يتخيلون بلا حدود, فتتحول عقولهم إلى مصانع وورشات للأفكار البديلة, والقيم البديلة, يكتبون كما أبصر خيالهم, ويرسمون بريشة الخيال عوالم وممرات للعقل لم يسلكها من قبل, ومن أجل ذلك فهم عرضة للاصطدام دوماً بجميع الرؤوس التي تؤطر خيالها, يصطدمون برجال السياسة, لأنهم لا يربطون أحلامهم بصخور الممكنات, ولا يضعون في اعتبارهم الوقائع الجامدة حين يتسلق خيالهم جدران العالم البديل.‏‏

ويصطدمون برجال الاقتصاد لأن لعبة الأرقام لا تشغلهم, واضطرابات السوق لا تعنيهم, والسلع الباردة لا تنفتح عليها شهيتهم, ويصطدمون بمحرومي الأرض, لأن الأرض في خيالهم رحبة, وقمر الرغيف في قاموسهم لغة للشعر ومادة تشكيلية تعبث بها ألوانهم فيبتدعون منها ما يشاؤون, ويصطدمون بالعشاق لأنهم لا يذهبون بالحلم إلى نهاياته, فيطوبون قلوبهم لنبض موجع لا ينتظم في الصدر, وحب مستديم لا يطوي أجنحته على الأفق حتى الزوال, ويصطدمون بالطغاة, لأنهم يصنعون في خيالهم كل يوم بغداد جديدة, نخلها أخضر, وفراتها عذب, وتاريخها مولود ذكي في سرير المستقبل, ولأنهم لا يصلحون للعبودية, ولا تقتفي كلاب الغابة أثرهم, ولأن تاريخ المجازر لم يسطع في خيالهم إلا مساكب للورد, يزرعون بورودها أضرحة القتلى, ودروب العاشقين.‏‏

وحدهم هؤلاء يملكون ميزاناً للحياة, لا يرتشي فيه العدل, ولا يتبدل معدن الجمال, ومن أجل ذلك فقد اغتربوا بخيالهم, عن دنيا لا ينتصب فيها ميزان العدل, ولا يقرأ فيها أحد في دفتر الجمال.‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية