هل يكفي صغر العمر ذريعةً لاعتبار كيلمان ظاهرة الأدب الألماني المعاصر؟
عدا عن عمره الصغير نسبياً يلتقط كيلمان عبر أعماله موضوعات ببراعة يمزج فيها الحلم بالواقع.. الخيالي بالمعاش.. يغوص بعوالم شخصياته.. يقرّب دنياها وأجواءها لقارئه.
فمن خلال عمليه الأشهر (زمن مالر) و(مسح العالم) يخوض في جوانب علمية دون أن يكون ذلك معضلة تُبعد القارئ عن متابعة العمل.. إنما على العكس يستخدم أسلوبية تجذب المتلقي وتجعله يندفع لمعرفة مصير أبطاله ومصير أسئلتهم المعلّقة.
مؤخراً.. صدرت الترجمة العربية لرواية (زمن مالر) عن مشروع كلمة- أبو ظبي.. ترجمة المصري سمير جريس. وهي الرواية التي صدرت لكيلمان عام 1999، وكان حينها بعمر الرابعة والعشرين. المدهش أنه يلتقط موضوعة «الزمن».. يتصدّى لمناقشتها وهو في تلك السن.. بما تمثله من شيء ضاغط يجثم على صدر المرء دون أن يستطيع الفكاك منها. ويبدو أن المهارة الأسلوبية التي اتبعها الكاتب جعلت النقاد يعتبرونه كاتباً متمكّناً ذا مقدرة على لفت انتباه جموع القرّاء.
ولد دانيال كيلمان عام 1975. نشر أول أعماله عام 1997، قبل أن يكمل دراسة الفلسفة والأدب الألماني وكان بعنوان (بير هولم يقدّم عرضاً).. وكان الثاني بعد عامٍ واحد هو المجموعة القصصية (تحت الشمس).. ألحق هذين العملين بروايته الثانية (زمن مالر) التي نشرتها أحد أهم دور النشر الألمانية، دار (زور كامب).
وكما لو أن الروائي تحرر من أسر الموضوعات (ذات الطابع العلمي) من خلال روايته (أنا وكامينسكي) التي صدرت عام 2003، ويتناول فيها طبقة نقاد الفن التشكيلي.
عن عموم أعماله يقول الناقد الألماني فولكر فايدرمان: (.. الأكثر موهبةً في القص الحر الذي لا يستند إلى وقائع السيرة الذاتية).. وبالفعل تدلل رواياته على انشغاله بسير الغير.. إذ تعكس سعة ثقافته وتأثره بالتراث الروائي للأدب العالمي.
في (مسح العالم)، يدخل المجال العلمي من خلال اختياره لبطلين من رموز ألمانيا.. الأول كارل.ف. غاوس عالم الرياضيات والفلك، والثاني الرحالة المستكشف ألكسندر هومبدولت.. يلج عوالم هذين البطلين ويقرّبهما إلى القارئ.. غاوس مكتشف الخط المنحني والآخر الذي لم يترك بقعة في العالم لم يزرها. نقطة الجمع بين الاثنين تتمثل بالهدف الذي أراده كل منهما, ألا وهو (قياس الأرض) كلٌ بطريقته.. غاوس دون أن يفارق مختبره.. وهومبدولت من خلال مشيه في مختلف بقاع الأرض.
في عمله هذا يمزج الواقع بالخيال.. ينطلق من حدث واقعي هو اجتماع هذين الاثنين عام 1828، في برلين خلال مؤتمر علمي. لقاؤهما جاء مقتضباً عابراً.. يجعل منه كيلمان بذرة عمله التي ينطلق منها جاعلاً من بطليه يتفقان على هدف واحد.. وينشغل بحثاً في الجانب الشخصي لهما.. فيتعامل مع عوالمهما.. مع دنيا الأرقام والعلم ودنيا الطبيعة والغابات والجبال. لا يقف عند الظاهري من المواقف الإنسانية الطريفة التي يأتي بها الاثنان.. بل يتوغل صوب ما هو أعمق.. إذ يحاول تقديم العالم من وجهة نظريهما.. كيف ينظران إلى العلم.. وما تعنيه المعرفة لديهما.
يحاول كيلمان ضبط هاتين النظرتين- النظريتين.. دون نسيان ذكر الاختلافات بينهما.. غاوس يتمنى لو خلق بعد مئة عام.. بينما هومبدولت يبحث عن الماضي.. هكذا يلقي الكاتب الضوء على القرن التاسع عشر من خلال بطليه.. دون خلو العمل من إشارات وتلميحات إلى عصرنا الحالي تبدّت بالأسئلة الشاغلة لذهن الإنسان حيثما كان.. بهذه الطريقة ينفد كيلمان إلى الموضوعات التي تخلق علاقة جيدة وعفوية بينه وبين القارئ.
احتلت الرواية المركز الأول في قائمة الكتب الأكثر مبيعاً حين صدورها.. وبواسطتها اُعتبر كيلمان أكثر الكتّاب نجاحاً دولياً قياساً إلى النجاح الذي حققت الرواية.