لدى قراءة السيرة الذاتية لبرتراند راسل الصادرة عام 196٩م، نتفاجأ بأن ذاك الفيلسوف، صاحب الفكر المنطقي والتفكير الرياضي خبأ وامتلك يوماً قلباً عاشقاً مرهفاً قاده للبحث والاستقصاء المرير العذب عن الحب، مادفعه لأن يتزوج خمس زيجات باحثاً عن ضالته في عشق لاوصف ولاحد له.
جانب خفي في شخصية راسل تضيئه السيرة، وتكشف أن بحثه عن الحب كان تماماً إلى جانب بحثه المضني عن المعرفة، الأول شغل قلبه، فيما الثاني شغل عقله، طوال مايقارب قرن من الزمن، ولد عام 1872 م وتوفي في الثاني من شباط عام 1970 م.
يتسع جانب البحث عن المعرفة لدى راسل بداية انطلق في دراسته حول أصول الهندسة ثم عمل في الحقل الفلسفي، فكانت له إسهامات عظيمة في الفلسفة والرياضيات في مطلع القرن العشرين ، أراد أن يستمد جميع الرياضيات من المنطق وتعاون مع عالم الرياضيات والفيلسوف الانكليزي ألفرد نورث وايتهد في مؤلفه الضخم عن مبادىء الرياضيات.
في عمله هذا سعى للتأكيد على أن كل الرياضيات تتوالد من مسلمات منطقية تماماً، ومهدت أفكاره لكثير من الانجازات الحديثة في علمي المنطق والرياضيات على السواء.
كما وظف راسل المنطق توظيفاً آخر لتوضيح الإشكالات الفلسفية...
أهم معضلة اشتغل عليها تتعلق بمجال المعرفة تمحورت حول التساؤل: هل يستطيع الإنسان معرفة شيء ما؟ هل يوجد بالعالم معرفة فيها حقيقة لايستطيع أحد الشك فيها؟
نظرية المعرفة تأسست لديه عن مفهومين، الأول: المعرفة المباشرة وهي مايوجد بين الافتراض والحدث المعين، والثاني: المعرفة عن طريق الوصف أي مالانعرفه بشكل مباشر.
(برتراند) الذي عرف واحداً من أشهر فلاسفة القرن العشرين، وتوج كأهم علماء المنطق منذ عصر الإغريقي أرسطو... لم يكن حضوره مقتصراً على ساحات العلم والبحث التنظيري... فإلى جانب أثره الكبير في هذه الجوانب العلمية والفكرية، أصبح راسل كذلك شخصية مؤثرة لها صوتها الخاص واللافت والمثير للجدل على الساحة العالمية في قضايا اجتماعية وسياسية.
فبالإضافة إلى صورة الفيلسوف وقلب العاشق كشف عن جانب المناضل منخرطاً بالعمل السياسي والاجتماعي مناصراً القضايا التقدمية، وفي مقدمتها السلام، ومنع استخدام الأسلحة ولاسيما النووية وقضايا المرأة.
تمسك راسل بآرائه الشخصية ومواقفه النضالية إزاء هذه القضايا فكان ذلك سبباً لاعتقاله مرتين، الأولى عام 1918 بسبب دفاعه عن السلم ومعارضته للحرب العالمية الأولى، وإطلاقه تصريحات ضارة بالعلاقات البريطانية الأميركية والثانية عام 1961م محرضاً على العصيان المدني في حملة ضد تخصيب اليورانيوم.
راسل الذي حقق حضوراً على خارطة العالم في مجالات الفلسفة، المنطق، علم النفس والاجتماع، وغيرها... أدهش العالم مرة أخرى لكن ليس بعلمه واتساع معرفته، إنما بمحبته وخوفه على الجنس البشري ( إن الحب وحب المعرفة بما أمكنني ارتفعا بي إلى السماء، ولكن الحسرة على الإنسان ردتني إلى الأرض، كم رغبت في تخفيف الشر فلم أنجح ولذا عانيت).
عندما اشتعلت الحرب العالمية الأولى راح يصب سيلاً من النقاشات والتعليقات ضد رجالات السياسة في بلاده فطرد من كرسيه في الجامعة وأنكر الناس قناعته التي لم يبدلها حيال هذا الأمر تتلخص بأن المصالح البريطانية لاتستحق مايزهق في سبيلها من أرواح أبنائها الشباب.
نشاطه ضد الحرب وكفاحه لإيقاف المجازر البشرية، جعلاه يفوز بجائزة نوبل عام 1950 م، ويذكر له التاريخ تأسيسه محكمة لمقاضاة الولايات المتحدة في حربها على فيتنام عام 1967 وهو ماكان الدليل الأبرز لمعارضته النظام الرأسمالي.
الحب الذي عرفه راسل وجعله مسبقاً يتمثل رؤيا سماوية، هوذات الحب الذي دفعه للمجاهرة ضد الممارسات الظالمة. واليوم على الرغم من مرور ذكرى رحيله الأربعين، أهم مابقي من صدى صوته حيال قضايا العرب، إدانته للعدوان الاسرائيلي في منطقة الشرق الأوسط.
كثيراً مايقال لنا: (أنه يجب علينا التعاطف مع اسرائيل لما عاناه اليهود في أوروبا على يد النازي... إلا أن ما تقوم به اسرائيل اليوم لايمكن السكوت عنه، وإن استجلاب فظائع الماضي لتبرير فظائع الحاضر هو نفاق فادح).